السبت 2014/12/20

آخر تحديث: 15:06 (بيروت)

2014 عام الانتصار الشخصي.. يا فاتيما

السبت 2014/12/20
2014 عام الانتصار الشخصي.. يا فاتيما
increase حجم الخط decrease

الصديق في القفص الأسود عطن الرائحة. في إحدى قاعات المحاكم ينتظر قرار القاضي. ينتظر إما البراءة وعودة الحياة والخروج من باب القاعة، وإما الأسف والظلم والخروج من الباب الخلفي الى باب القفص الأسود من الداخل. تجمع أقاربه وأصدقاؤه في مشهد مؤسف. عدم إدراك المشهد. لقد فشلت الثورة والأحلام الجماعية. فعلى ماذا يُحاكَم صديقنا مع بقية أصدقائنا القابعين في السجن؟ ربما كنا لنستوعب ذلك، قبل عام أو عامين، لكن لماذا نختبر ذلك في بداية 2014؟

عدم إدراك المشهد هو البداية التي طالعتنا بها 2014، يا فاتيما. لم نكن نستعد لتلك البداية. كان التصور بأن العام 2012 هو الأسوأ والأقذر على الإطلاق. ما زلت أتذكر حفلة رأس السنة حينها. كانت ليلة كبيرة. غسلنا فيها أرواحنا من مرارة هزيمة الأحلام الجماعية والأمل الذي بقي لنا بإنتهاء 2011.. فإنكشف لنا في بدايتها، موت الآمال، ومررنا بـ2013 التي كانت بمثابة رثاء ومحاولة لإستدراك أحزان العام المنصرم حينها. لكننا لم نكن نعلم بأن 2014 ستحمل كل تلك التجربة.. كل التجربة لـ2014، يا فاتيما.

صغيراً.. عندما شاهدت فيلم "الهروب"، آمنت بعاطف الطيب، وبالسينما التي يقدمها. بات "الهروب" هو فيلمي المفضل لسنوات طويلة، قبل أن يتربع "الحريف" و"البحث عن السيد مرزوق". كان الفيلم الذي قام ببطولته أحمد زكي، هو الأكثر تأثيراً في نفوس العديد من أبناء جيلي. كل منا يتذكر الصقر الحر، ونوم أحمد زكي فوق القطار. كل منا يتذكر هالة صدقي وسوء الدولة في محمد وفيق وأبو بكر عزت. وعندما خرجنا للعالم، كان أسياد الدولة يتمثلون لنا في أبطال هذا الفيلم. بكل حماس الحق ضد الظلم، لكنني في 2014، غيّرت نظرتي للفيلم ولعاطف الطيب ولزمن أفلام عاطف الطيب، ولفكرة الهروب والمطاردة عموماً. فقد شاهدت الهاربين من كل الطوائف، السياسيين والذين لا ينتمون للعمل السياسي، وطوائف ساكنة أيضاً، لا تمثل خطراً على أي شي. لكن الدولة قررت أن تعاديهم، فيضطرون للهرب والمطاردة.

قابلتُ "عاطف" في أحد أقسام الشرطة، شرقي القاهرة. كان عاطف سائق سيارة نقل يعمل لصالح إحدى شركات الألبان. سُرقت سيارته في منتصف 2013، وسط موجة سرقة السيارات حينها. كان ذلك خلال الأسبوع التالي لمجزرة "رابعة"، وكان عاطف السجين الوحيد غير السياسي في القسم. إحتجز ثلاثة أيام، لأنه عندما ذهب إلى القسم وأراد تحرير محضر سرقة، قام ضباط القسم بإستدعاء مدير شركته، الذي اتهمه بالسرقة هو الآخر، ما دفعه إلى الثورة والإنهيار أمام مديره والضباط، فبات نزيلاً في القسم لمدة شهر، الى حين عرضه على النيابة "عشان يتربي". وفي العرض أمر وكيل النيابة بإخلاء سبيله إلى حين ميعاد الجلسة، وقرر عاطف الهروب، لأنه لن يستطيع رد الـ250 ألف جنيه قيمة الشيك الذي حرره على نفسه كشرط جزائي يُلزم بدفعه حال سرقة السيارة. لكنه لم يكن يعلم أن الأمور ستسير بهذا الشكل.

وفي بداية 2014، قرّر عاطف الهرب، وظل طوال أربعة أشهر يتقافز بين مساكن أصدقائه، محاولاً في الوقت ذاته، أن يدبر أموره مع أحد أمناء القسم الواقع بالحي الذي يقطنه، حتى لا يسأل أحدهم عليه في البيت أو يتعرض أهله للإزعاج. فرغم كل الكوارث، يا فاتيما، ليس هناك أصعب على السجين أو المطارد، من زيارة الحكومة لبيت الأهل. هذا الموقف الذي لا يحب أحدنا أن يتعرض له أهله، وأغلب المحكوم عليهم بأحكام، يسلكون ذلك الطريق، طالما أن الأحكام كثيرة.. فيذهب ليقتنص لنفسه ولأهله بعض الأمان، طالما إنقطعت ثقته في القضاء، فيضطر أن يلعب لعبة الحكومة والروتين والتربيطات.

لا عقل كبيراً لتلك الدولة. يمكنك مشاهدة أسوأ الظروف لمواطنين عاديين قررت الدولة، ممثلة في مسؤول أو صاحب نفوذ ما، معاداتهم. مواطنون، لو كانوا في دولة تانية، لكانت أمّنت لهم تجربة الحياة. فقراء في صمت. لكن دولتنا لا تؤمّن لنا حق الحياة كفقراء من الأصل يا فاتيما.

وسط خضم الأحداث، وسرعة تلاحقها، لم أستطع أن أدوّن ما مرّ بي في هذا العام، كحال الأعوام السابقة. لكني رأيت نفسي هذا العام، وهذا هو المختلف. هو عام القرارات الشخصية التي تأخرنا كثيراً في الفصل فيها قبلاً. لم نجد سوى أنفسنا سبيلاً للنهوض والإفاقة مجدداً. في خضم الهيستريا، قد نمر بأرجلنا على أنفسنا من دون أن ندري، رافضين شرح النفس، مصممين أن ننكر ما نمر به.

المطاردة تغيّرت الآن يا فاتيما. فهي لا تعتمد على رغبتك ورغبة الدولة المعادية بالأساس كما في "فيلم الطيب"، لكنها تعتمد على أصدقائك الذين يستقبلونك في هذا الوقت الصعب ويقدمون لك المساندة والمؤازرة كلما استطاعوا. لدي من الأصدقاء من وصل إلى برج إيفل وهو مطارد، ولدي من وصل إلى جذر المحروسة بالمطاردة فيها.

أياً كانت الايديولوجيا، التجربة مختلفة. يمكنك أن تمرّي بتلك التجربة، معتمدة على "مرازّية" الحكومة بأساليبهم نفسها. عندما تستطيعين السيطرة على مجريات الأمان والمزاج، التي تخفف عنك وقع التجربة التي تتعاملين معها على هامش اليوم. كل منا يُسجن لما يحبه ويستغرق فيه، وقد يُسجن لما لا يعرفه. الأكيد، أن إنتظار الحكم هو أسوأ ما يمكن أن يمرّ به من تعاديه الدولة. وإنتظار الإمساك به، هو أسوأ ما يمكن أن يمرّ به مطارد. حرية مختلسة، تعادي طرقات الطريد، شرفات السجون التي تنتظره لتكتم أنفاسه.

التجربة ثقيلة، لكنها تزيدك عنفواناً وبأساً. تقتطع من روحك ما لم يرد، لكنها موجهة بالأساس لإختبار مدى إستعدادك لمواجهة النفس والإختيارات ومن ثم النهوض. قد تذهبك التجربة في الأحزان والدراما طالما وجهتيها في هذا الطريق، بإختيارك. أما إن إعتبرتِها تسديد ديون للنهوض، ونظرتِ إليها كتجربة، كبقية ما تواجهينه، فستظل كما هي، جزءاً من مجريات الأيام.. سوء الأيام.

شخصياً، أدين لـ2014 بالفضل. فرغم قسوتها، إستنفرت في الأرواح العابرة، رغبة المواجهة، فأتوا بالروح من العدم، وواجهوا مصيرهم المختار وما زالوا يواجهون. فعام الإختيارات الشخصية والقرارات التي ندرك ثمنها، كان مفيداً جداً لنا. راجعنا به ما نريد وفصلنا فيه في ما يتطلب الفصل. وحتى الأشياء التي لم نفصل فيها بعد، حددنا مسارها مع الأيام. كل الأمل بأن تكون الإفاقة ومواجهة النفس. خطوة سابقة لتحقيق إنتصار شخصي لكل منا في العام المقبل.. فنحن نحتاج هذا، لنتداول بين الأيام.. لا أن تتداول الأيام فينا، يا فاتيما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها