الخميس 2023/08/03

آخر تحديث: 22:24 (بيروت)

اللغة العربية...وأدب قلّة الأدب

الخميس 2023/08/03
اللغة العربية...وأدب قلّة الأدب
هل من شتائم أكثر خبثاً وتحطيماً من جواهر المتنبّي الشعريّة؟
increase حجم الخط decrease
في معرض استحضاره لتاريخ الشتم في المجتمع الروسي، يقول الكاتب والفيلوليجي الروسي أنتولي كوروليوف، أّننا "عبر الشتم، نحاول جميعاً بطريقتنا البربريّة أن نحضّر المجتمع". والشتيمة، في المجتمع الروسي، منتشرة إلى الحدّ الذي استدعى ابتداع نوع من التركيب اللغويّ الخاصّ لصياغة الشتائم- نظام للشتيمة إن صحّ القول، يسمّى "مات"، وهي كلمة متحدرة بالطبع من لفظة "أمّ".

يرى كوروليوف أن هذه النزعة "الآثمة والمُعدية" لدى الروسيّ إلى اللّعن والذمّ، ولدت من رحم النظام الإقطاعيّ الذي كان يتيح تجارة الرقيق. جاء في ما بعد النظام الإشتراكيّ الذي وضع قيوداً لا تُحصى على الكلام والتعبير، إلّا أن ذلك لم يسفر سوى عن المزيد من البذاءة المكبوتة التي إنفجرت بها الأعمال الفنية والأدبية فور سقوط الإتحاد السوفياتي. ولعلّ الدليل على ذلك هو زعم الروائي الروسي فيودرو دوستويفكسي، أنّ الروسيّ يمكنه التعبير عن كافّة أطياف مشاعره بكلمةٍ واحدة لم يجرؤ على كتابتها؛ هي الكلمة التي يشار بها إلى العضو الذكريّ.

أفكّر بالرديف العربيّ لهذه الكلمة - الرمز، وأقدّر أنّها الكلمة التي تعني العضو الأنثوي لا الذكريّ. أما في الإنكليزية، فهي ليست هذه ولا تلك، بل فعل الجِماع نفسه. وهي لا تستخدم للشتم بقدر ما تستخدم للتوكيد، فنراها تتوسّط أي زوجٍ من الكلمات مع أمّ من دون مغزى. حتى أّنها أحياناً تتوسّط الكلمة الواحدة، إذ يجوز- خصوصاً في المحكية الأميركية- تفكيك المقاطع الصوتية حين تكثر في الكلمة ودسّ تلك العبارة داخلها، من دون أن يُراد بذلك إهانة أو ذمّ.

أخذتني هذه المقارنة بين اللغتين إلى ملاحظة شخصيّة لم أكن قد تنبّهت إليها من قبل. وهي تخصّ سلوكي في منصّات التواصل، حيث أخذت مؤخّراً، وبشكلٍ آلي ومن غير قصدٍ واعٍ، أعتمد تقسيماً لغوياً ثابتاً للتعبير عن موقفٍ ما: الإنكليزية للحديث العلمي والخطاب الموزون المدعوم بالمصطلحات العلمية وآليات المحاججة والنقاش والتسلسل المنطقي. أما العربيّة، فهي للشتم والرفض وإعلان الإستنكار المطلق. الإستنكار الذي ليس من بعده أي فرصة لتصويب الأمور بأي أطرٍ علمية ومنطقية. "كسم" واحدة ليست كافية في وجه هذا العالم، نحن بحاجة إلى "كسميات" نجيب سرور جمعاء.

فللبذاءة باللغة العربية متعة خاصّة تتأتّى من فجاجة المعاني التي تنتهك التابوهات. انتصار يوازي شدّة التابو وقسوة العيش في مجتمع يقدّم للمرء كل أسباب السبّ واللعن، ويمنعه في الوقت نفسه من صوغ هذا الرفض. من اللافت أنّ التسمية التي أطلقها العرب على فنّ الكتابة والقول، أي الأدب، هي نفسها مرادفاً من مرادفات اللياقة والتهذيب. ومن حسن المفارقة أن تاريخ الأدب عند العرب- والشعر خصوصاً- مليء بالعدوانية والشتيمة وقلّة الأدب.

بالإنكليزية، أفتّش عن الحلول، أساوم وأفاوض، أخفي الفعلية خلف غشاء من اللطف الزائف، والعدوانية السلبية. بإختصار، الإنكليزية بالنسبة إلي هي لغة الإيميل، اللغة المؤسساتية التي تضمر دوماً عكس ما تعلن. هي لغة نكتسبها أوّلاً في الصروح الأكاديمية وأمكنة العمل، ومع الوقت ومع تطوّر خبرتنا في التعامل مع المؤسسات الإجتماعية والمشاركة في فسادها، تصبح جزءاً منّا نبدأ بتعميمه على جوانب حياتنا كافة، فنصبح أكثر تهذيباً وأقلّ صدقاً.

لذلك فإن الشتم بالعربية ليست إنتصاراً على تزمّت المجتمع العربيّ فحسب، بل أيضاً على تزمّت اللغة المؤسساتية، وآداب الإرتقاء المهني والطبقي. إنّها وسيلتي إلى العدوانية الإيجابيّة في وجه كلّ ما يسلب الإرادة، بدءاً باللغة نفسها.

أعي بالطبع أن الشتيمة ليست حكراً على مجتمعٍ وثقافةٍ دون أخرى، وكذلك التهذيب وصيغ الإحترام. ولعلّ صعوبة إعتماد العربيّة لغةً للإيميل، وبالتالي العمل، هي تحديداً بسبب مغالاتها في صوغ الإحترام، إلى درجة توحي بالافتعال والتزلّف. فقليل من الإحترام الزائد، مثل ذلك الذي تفيض به عبارة " تفضّلوا بقبول فائق الإحترام"، يفضح الطابع الزائف للخطاب برمّته. من هنا الحاجة للغةٍ أكثر حياديّةً نقضي بها أعمالنا، بعباراتٍ مثل "regards".. و  "best"...

وإن كان يبدو هذا الإحترام المفرط في غير محلّه، فإن نقيضه المشحون بالإنفعال والبذاءة هو على العكس من ذلك، مناسب تماماً لواقعنا العربيّ. والحال أن العرب صنعوا من الهجاء فنّاً يزخر حكمةً، فهل من شتائم أكثر خبثاً وتحطيماً من جواهر المتنبّي الشعريّة؟

يذكر معظمنا ذلك الفيديو من تغطيات 17 تشرين حيث تنهال الشتائم من فم أحد المتظاهرين خلال البثّ المباشر، فلا ينفكّ المراسل يذكّره بـ"اللغة لو سمحت"، ليجيبه المتظاهر في كلّ مرّة "تقبرني معليه". فإن كنّا شعباً يستخدم لفظة "القبر" للتعبير عن الحبّ، فكيف لنا أن نعبّر عن الغضب والحقد بألفاظ أقلّ فظاعة؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها