الثلاثاء 2023/08/22

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

الراب الفلسطينيّ: سرديّة جماعية مشبّعة بالذاتية

الثلاثاء 2023/08/22
الراب الفلسطينيّ: سرديّة جماعية مشبّعة بالذاتية
فرقة "دام"
increase حجم الخط decrease
تزامن وصول الهيب هوب الى العالم العربي- الأندرغراوند- مع بداية تحوّله إلى الماينستريم في منشئه الأصلي، الولايات المتحدّة. ومع بدء ظهور علامات الثراء والشعبية على الراب الأميركي، أخذت صور السيارات الفارهة وسلاسل الذهب والنساء الجميلات تكتسح المشهد الأصليّ نتيجة استيعابه من قبل السيستم. لكنّ بذور الاحتجاج التي زرعتها هذه الحركة الثورية لم تختف، بل نبتت في أماكن أخرى، وجدت نفسها في أمسّ الحاجة الى أداةٍ صالحة للتعبير عن تجربة الانسلاخ والحرمان. هكذا ولِد الراب الفلسطيني، في بداية الألفية الحالية، ليس فقط بصفته فنّاً وتعبيراً، وإنّما وسيلة لنسج سردية تاريخية في مواجهة محاولات محوها المستمرّة منذ 75 عاماً.

بالرغم من اختلاف السياق السياسي وحيثيات الصراع، ألهم الهيب هوب الأميركي جيلاً من الشباب الفلسطينيّ الذي رأى فيه انعكاساً لواقعه ونضاله ضدّ العنصرية والحكم البوليسيّ والتهميش. يحكي تامر نفار، مؤسّس فرقة "دام" التي تعدّ أوّل فرقة راب فلسطينية، أنّه حين سمع أغنية "عالم الرجل الأبيض" لتوباك شاكور، "قرّرت أنّ آخذ الراب على محمل الجدّ". ذلك أن نفار، الذي ترعرع في "اللّد"، ليس غريباً عن تجربة الغيتو، ومن الكافي "استبدال كلمة "زنجي" بكلمة "فلسطينيّ، لأشعر أن أغنيات توباك تحكي عنّي، تصف حالتي".

يحكي الراب الفلسطيني قصة غربة مزدوجة ومنفى متعدّد الطبقات والأوجه، سواء المنفى الجغرافي المتمثّل بسلب الأرض، أو المنفى الرمزيّ المتجسّد في انكار التاريخ ومصادرة الهوية، وصولاً الى إنكار الوجود ذاته. فسواءً في الشتات، في غزّة والضفّة، أو في "الداخل"، المنفى هو الثيمة الأساسية لأغنية الراب الفلسطينية. أمام ذلك كلّه وجد الراب، بنسخته الفلسطينية، نفسه، أمام فيض من الاشكاليات والمعضلات التي يخوضها الرابرز ببلاغةٍ وخفّةٍ مدهشةً نظراً الى ثقل هذه المواضيع، وذلك للوصول الى لبّ المسألة، أي الهوية الفلسطينية، وماذا يعني أن تكون فلسطينياً؟

تجيب "دام" عن هذا السؤال بسؤالٍ آخر "مين ارهابي؟"، وهو عنوان إحدى أولى أغنياتها التي تحمل خطاباً سياسياً مباشراً، على عكس أسلوبها الحالي الذي يحمل لهجةً ساخرة والكثير من الاستعارات وصور مجازية تصف واقع الحال. تتحدّث الأغنية عن اشكاليات هذه الهوية ومنها مسألة المواطنة (بلا جنسيّة)، ومفارقة "الحاضر/الغائب"، وأسطورة القانون في دولة الفصل العنصري.

"أجه للقانون، عالفاضي ما أنت يا عدو
بتلعب دور الشاهد المحامي والقاضي"


في أغنية "غريب في بلادي"، وهي استعارة أخرى للتجربة الفلسطينية، يتحدّث نفار باسهابٍ عن فكرة الهوية الضائعة بين الحضور والغياب، كأن "نكون ضيوف الظلم ببيوتنا"، وأن "نضلّ قراب على أرضنا بعاد من وطنا"، وعن تفاهة العيش في ظلّ "دولة قانون" قائم على اسقاط شرعية وجودك.

المسموح اله ممنوع الي والمسموح الي مكروه الي
لأنه، ينكر كياني، محى وما زال
يمحي الواني، تاريخ ناسي أجدادي

أمّا أغنية "بروزاك"، للفرقة نفسها، فتسخر من الحلّ النفسي لمشكلاتٍ متجذّرة في النظام السياسي والاجتماعي، جاعلاً من المأساة الجماعية والكآبة مشكلة فرديّة يكون حلّها بالأقراص المهدّئة، لا بتصحيح أخطاء وجرائم تاريخية مثل سايكس بيكو وبلفور.

سايكس بيكو قسمني وقطعني، بلفور شلحني وشردني
كله مستورد، كله مستورد شغل أجنبي
وأنا بستنى، وأنا بستنى صنع بلدي


في واقعٍ من هذا النوع، تبدو الكآبة ورفض التطبيع مع واقعٍ ظالم بمثابة فعل مقاومة، أو كما تقول كلمات الأغنية "لا تكتبلي روشيتة، بديش تعطيني.. كآبتي وحرّة فيها". وهي لا تخاطب فقط الظالم "الفاشي"، وإنّما أيضاً النزعة الليبرالية التي تسعى إلى تلطيف وتبييض جرائمه، فتجيبه "خد ليبيراليتك وأحشيها زيريج.. في ثقوب في قناعكم الأبيض".

بعد المرحلة التأسيسية، التي تخلّلها الكثير من الجدال حول الأصالة مقابل التقليد واستيراد الأنماط الغربيّة، نجح صنّاع الهيب هوب في العالم العربيّ بتطوير أسلوب وخطاب يعكسان خصوصية تجربتهم، فما عاد هناك شكّ في أصالة هذه الموسيقى وصدقها.

من الأسماء التي تتصدّر مشهد الهيب هوب العربيّ اليوم، وتمنحه هويّة خاصّة، اسم "شب جديد" الذي قدّم أسلوباً فريداً من حيث طابعه السرديّ المفعم بالذاتيةّ. يتّخذ راب "شب جديد" الذاتية كمدخلٍ لصياغة سردية جماعية، فينتقل بسلاسة بين الشخصي والسياسي، بين شعور أنه "فارغ من الجوف" وبين تجربة الاعتقال التفتيش في المعابر. بمهاراته السردية، يوازن "شب جديد" بين السخرية والاعتزاز بالنفس والنقد الذاتي، بين فضح جرائم الشرطة الاسرائيلية ونقد فشل "الأمّة" العربيّة. بلسان مواطنٍ عربيّ لاذعٍ وساذجٍ على حدّ سواء، تشتم أغنية "أمريكا" كلّ من أميركا والشعب العربيّ وزعمائه، لتعود وتتملّق القادة العرب من أجل "فيزا". تتحدّث عن "تلطّخ الشعب العربيّ بالوحل"، عن "خيانة الاخوان"، عن صدّام حسين، وعن تعاطي المخدرات.


يشتهر اسلوب "شب جديد" باستخدامه لغة غير متكلفة مستنبطة من الشارع الفلسطيني ومفرداته، معالجاً اشكالية الأصالة في أغنية "دحية" حيث يقول "أنا مش فنان أنا طابعة"، أي أنّه مجرّد آلة تدخل اليها الصور والمعلومات وتخرج على شكل كلمات. يعلّق أيضاً على "الفولكلور" السياسي المرتبط بالأغنية الفلسطينية وأدائها اليساري، قائلاً "بلبس نايك مش كوفية، وكلّ الرفاق بشكوا فيي". تختصر الأغنية جدلية الأصالة العربيّة في سياق الهيب هوب، اذ يعلن شبّ جديد: "غيّر جلد زي سحليّة، خال هاد مش راب هاي دحيّة". (أي الدحيّة البدوية).


ثيمة أخرى كثيرة التكرار في الهيب هوب الفلسطيني، هي السفر والهجرة، ويتجلّى ذلك في أغنيات الرابرز المقيمين في الأراضي الفلسطينية أو في الخارج. "محراك" رابر فلسطيني كان لاجئاً في سوريا (اليرموك) قبل أن يضطر للجوء الى لبنان ابّان الحرب السورية، ثم هاجر إلى أوروبا، منذ عامين. قبل مغادرته العالم العربي، أصدر محراك أغنية وداع بعنوان "مسافرين"، تقارب مسألة السفر بوصفها مصيراً أبديّاً مشتركاً لا مفرّ منه.

باني حالي أكتر من مرّة مفكّر بسأل وبعدين
أهّل سهّل بوّس ودّع
منتلاقى بعدين
مالي مين الباع مين ولا إلي بكل الباعدين
مسافرين
هاي صار عادد السنين

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها