الأربعاء 2023/08/16

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

الهيب هوب و"علاقة الحب" مع الجاز

الأربعاء 2023/08/16
increase حجم الخط decrease
في أغنية مشتركة بين مغني الراب الشهير "ليل ناز"، ووالده عازف الجاز أولو دارا، وهي بعنوان Bridging The Gap (تجسير الهوّة)، يغني الأب "لقد جئت من ميسيسيبي... كنت صبياً متشيطناً... انتهى بي الأمر في نيويورك.. حيث رُزقت بابني الأوّل.. أخبرته حين كان صغيراً أنه سيصبح الرجل الأعظم على الاطلاق". يردّ الابن "لقد فعلتها مثل مايلز (دايفيس) وديزي (غيليسبي)... أمدّ جسراً من البلوز إلى الجاز فالراب.. تاريخ الموسيقى على هذا التراك".

تلخّص هذه المحادثة بين الأب والابن علاقة جيلين موسيقيين، هما الجاز والراب، ما زالا في حوار مستمر منذ حوالى قرن.


يمكن النظر إلى موسيقى الهيب هوب، التي يحتفل هذه الأيام بخمسين عاماً على انطلاقتها، بوصفها امتداداً طبيعياً لموسيقى الجاز، وهي نفسها امتداد للبلوز. وذلك ليس بسبب الهوية العِرقية التي تتشاركها هذه الأنماط فحسب، بل إن الأمر يذهب أبعد من ذلك، ويصبّ في صلب الفلسفة الموسيقية التي روّج لها الجاز وتبنّاها الهيب هوب. فموسيقى الجاز، عند ظهورها، وبعكس الأنماط الموسيقية التي كانت رائجة حتى ذلك الوقت، منحت الموسيقيين المعاصرين فرصة الارتجال والتجريب وتخطي الحدود والأعراف... وهو ما نجح الهيب هوب في تحقيقه، ليس موسيقياً فحسب، بل كثقافة عامّة تمّ تصديرها إلى أنحاء العالم.

يبدأ التوازي بين الجاز والهيب هوب من نقطة انطلاقهما، أي الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدّت إلى ولادتهما. يتقاسم الجاز والهيب، تاريخاً مليئاً بالصراع والاضطهاد، سواء في نيواورلينز- مسقط رأس الجاز- حيث عانى السود لمدة طويلة من القمع والتمييز، أو في البرونكس (نيويورك) وهو منشأ الهيب هوب، الذي جاء كردّ فعل على التهميش الاقتصاديّ الذي كان يشكو منه أهالي المنطقة، وهم أيضاً من أصول افريقية.

كان ذلك في عزّ رواج موسيقى الديسكو المخصّصة بشكل أساسي للرقص، حتى تحوّل اسم نادي الرقص الى "ديسكو". وقد أصبحت هذه الموسيقى في السبعينيات بمثابة ثقافة فرعيّة متمحورة حول السهر والرقص والأزياء. كان الناس يذهبون بكامل أناقتهم إلى بعض نوادي الديسكو؛ الذكور في بذلات رسمية، والإناث في فساتين الساتان، والجميع في تسريحةٍ خرافية، وكل شيءٍ يلمع. لم تجد هذه الثقافة البرّاقة أصداء لها في الأحياء الأكثر تهميشاً مثل البرونكس، الذي شرع في خلق موسيقى تشبهه وتروي حكايته، متخذاً من الديسكو أرضية لاستعارة الايقاعات وقولبتها في نمط موسيقيّ مختلف كلياً.

وفي ردّ الفعل على الديسكو، أخذ صنّاع الهيب هوب الأوائل خطوة إلى الخلف، اي نحو موسيقى "الفانك"، التي تنتمي إلى شجرة العائلة نفسها المتحدرة من البلوز. استُحضِر الفانك عبر ايقاعات الbreaks، او فواصل الاستراحة، ومن هنا جاءت تسمية "البرايك دانس" للرقص المرافق للهيب هوب منذ بداياته. وقد برز في منتصف السبيعينيات دي جي "كوول هيرك"، الذي سيعرَف في ما بعد بالأب الروحي للهيب هوب، وكان أوّل من استخدم هذه الفواصل بشكل متتابع، مستعيناً بعينات موسيقية من أسطوانات الجاز-فانك، خصوصاً أعمال جيمس براون.


كان ذلك يتمّ بشكلٍ حيّ في حفلات ضيّقة وأندرغرواند أبطالها الـDJ، وذلك قبل التحوّل الى الانتاج والاستديو، وولادة الراب.

في مكانٍ آخر في العالم، وتحديداً نوادي الرقص في لندن، كان الدي-جي يمارسون نوعاً آخر لكنه مشابه من التجريب، وذلك عبر مزج أغنيات جاز نادرة مع موسيقى السايكديلك والايقاعات المكرّرة، ما أضحى يعرَف بالـ"أسيد جاز". وخلال الثمانينيات قام الدي جي بمزج هذه الموسيقى من جديد، عبر اضفاء عناصر من الهيب هوب مع التركيز على المكوّن الايقاعي، وذلك لخلق نوع من الجاز القابل للرقص.

كان ذلك خلال السبعينيات والثمانينيات، الا أن الانصهار الفعلي بين الهيب هوب والجاز لم يحدث فعلياً حتى التسعينيات، وهي الفترة نفسها التي وصل فيها تطور موسيقى الهيب هوب الى النقطة التي يمكن وصفها بالماينستريم. فقد تطوّر هذا الاندماج إلى أسلوب مميز عندما بدأ مغنّي الراب في أخذ عينات من ايقاعات الجاز من تسجيلات موسيقيين مثل Dizzy Gillespie وRoy Ayers وغيرهما. نذكر مثلاً أغنية "Talkin' All That Jazz " التي تستعير ايقاعاتها من مقطوعات جاز مثل “Expansions” لصاحبها لوني ليستون سميث، أما كلماتها فتتحدث عن الرفض الذي واجهته موسيقى الهيب هوب في بداياتها من مستمعي الموسيقى التقليديّة كالجاز وغيره. تردّ الأغنية على هؤلاء "هذه هي موسيقى فرقة هيب هوب.. جاز، حسنًا يمكنك أن تسميها كذلك.. إنّه الجاز بحلّة جديدة".


في المقابل، أخذ موسيقيو الجاز بالتعاون مع فرق الراب، وكان أوّلهم الساكوسوفونيست غريغ أوزبي الذي أنتج مقطوعة موسيقية هجينة بعنوان "Street Jazz"... امتدّ هذا التأثير الى الألفية الحالية، حيث يمكن الحديث عن الكثر من فناني جاز الذين ألهموا موسيقى الهيب هوب، وقد يكون الاسم الأكثر تكراراً وعودةً هو اسم نينا سيمون، أو ما يصفه الموسيقي والكاتب جوش جونس بـ"السلاح السريّ لموسيقى الهيب هوب". لقد ألهمت أعمال نينا سيمون مغنين ومنتجين كثر، من لورين هيل الى جاي زي وكايني ويست، الذين وجدوا في صوتها القوة الموسيقية والاحتجاجية التي تناسب أغنياتهم وحراكهم.


لكن هذا التأثير لم يسلك مساراً أحادياً، بل سار في الاتجاهين، اذا بدأ موسيقيو الجاز يتأثرون بالهيب هوب وأشهرهم مايلز دايفيس الذي أصدر ألبومه الأخير Doo-Bop (1992)، بالتعاون مع منتج الهيب هوب "مو بي"، الذي ينتمي الى نمط "الجاز راب" وتخلّلته مقاطع من أغاني الفانك. كذلك، نظّم الرابر غورو جلسة تسجيل (1993) مع عدد من عازفي الجاز آنذاك نتج عنها ألبوم Jazzmatazz. وقد كان هدف غورو من وراء ذلك هو الانتقال الى المستوى الثاني من التعاون بين رواّد النوعين، أي عبر قلب المعادلة و"إحضار الأشخاص الذين كنا نستعير موسيقاهم إلى داخل الاستيديو لكي يعزفوا هذه الموسيقى على ايقاعات الهيب هوب. كنت أعرف أننا سوف نصنع موسيقى للتاريخ"، كما يقول غورو في احدى المقابلات.


ما بدأ كمغازلةٍ بين صوتين، تحوّل إلى لائحة طويلة من الأساليب والأنماط. وخلافاً لقصّة الرابر "ناس" الذي "اكتشف موسيقى أبيه"، ثمّة اليوم جيل من موسيقيي الجاز الذين كبروا وهم يستمعون إلى الهيب وهوب والراب، كما يقول عازف الساكسوفون، كماشي واشنطن. وعلى عكس الفترات السابقة، حين كان فنان الهيب هوب يستعير جملة موسيقية من موسيقى الجاز، أو العكس، فإن أقران واشنطن، مثل روبرت غلاسبر وكندريك لامار، يقومون بدمج حرٍ للنوعين.

يرى البعض بين الجاز والهيب هوب "رابط أبوة"، فيما يصفها آخرون بـ"علاقة حب". لكن لماذا ينجذب منتجو الهيب هوب الى موسيقى الجاز، ولماذا يعشقون انتشال وتقطيع النوادر الغارقة في النسيان؟ يجيب الموسيقيّ أليكس عريف معدّداً أسباب العودة المتكرّرة الى الجاز بوصفها بحثاً عن "المزاج وثروة المحتوى اللّحني، وهي أيضاً استعادةً لتاريخٍ مشترك من النضال والاحتفال والرغبة بتغيير الموسيقى مع كل إصدار جديد".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها