الخميس 2024/02/29

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

"ترند" الشامي...وأسئلة عن الذوق العام والفن البديل

الخميس 2024/02/29
"ترند" الشامي...وأسئلة عن الذوق العام والفن البديل
لعلّ النقمة على نموذج الشامي هي في جوهرها نقمة على جيله
increase حجم الخط decrease
بعد تحقيقه شهرةً غير مسبوقة، أصبح "الشامي" عنوان الجولة الأخيرة من النقاش المتجدّد حول "الفنّ الهابط" ونظيره الراقي. وقد اجترّ هذا النقاش أسئلة حول الفنّ البديل والذوق العام، كما يحدث كلما شكّل إنتاج فنيّ جديد صدمةً ما، باعتباره غير جدير بالنجاح الذي حصده. ويمكن ملاحظة طفرة موسمية في التأفّف الشعبيّ من الذوق العام، تحدث مع دخول الجيل الأصغر إلى الساحة الفنية محاولاً طرح أنماط وأشكال فنيّة جديدة من التعبير.

معظم المنتقدين لفنّ الشامي اليوم، هم من أبناء جيل التسعينات، ولم يتربوا على أغنيات أم كلثوم ونجاة، بل روبي وماريا. ففي الحقبة الذهبية للبوب العربي، المتزامنة مع انتشار الفيديو كليب، دخل الايحاء الجنسي إلى الثقافة الموسيقية من بابها العريض. يومها، نُعِت الجيل الصاعد "بالانحلال الأخلاقي"، لما يستسيغه من مشاهد الإغراء و"العريّ" التي يبثّها التلفاز. لكنّ فيديو كليبات الشامي تخلو من الإغراء والعريّ، ومع ذلك تحصد ملايين المشاهدات. فما الذي يشدّ المستمعين إليه؟

لا إجابة سهلة على هذا السؤال. إذ يصعب وضع الشامي في خانةٍ من خانات فنّاني الترند الذين يوظّفون عامل الصدمة لنيل الشهرة. فهو لا يشبه مغنيات اللون النيو-نَوَري اللواتي صعد نجمهنّ مؤخراً بأغانٍ وعباراتٍ "سوقية" من طراز "كلب ماكو".. كما أنّه ليس من أصحاب أغاني "الدانس فلوور" مثل "جنّوا نطّوا" أو "سُكّر محلّي".. هو أيضاً لا يطرح قضايا شائكة ليحصد الشعبية التي نالتها أغنية "تلك قضية وتلك قضية" لفرقة كايروكي، أو "إنّ أنّ" لشب جديد. كما أنّه لا يتعمّد تكسير التابوهات الاجتماعية أو إثارة الجدل…

في المحصّلة، ليس في الشامي ما هو صادم. وهو بالتالي نقيض الترند. فما الذي حوّله إلى ترند؟

للسخرية.. إن أحد الأسباب الرئيسة لشهرة الشامي هو غموضه في مواقع التواصل. فبالرغم من تصدّره الشبكات الاجتماعية، لا سيّما "يوتيوب"، حيث تجاوزت أغنيته "يا ليل يا عين" الـ120 مليون مشاهدة، إلا أنّ حياته الخاصّة غائبة عن العالم الإفتراضي الذي لا يملك فيه الشامي إسماً حقيقيّاً.
 

وفيما يبذل الفنانون قصارى جهدهم لصناعة وتنقيح صورتهم الرقمية باعتبارها شرطاً مسبقاً للنجاح والشهرة، حقّق الشامي شهرته عبر فعل العكس تماماً. ولعلّ السؤال الأكثر تداولاً في الإنترنت حول الشامي، لا يخصّ أعماله أو حفلاته، بل ما هو أبسط من ذلك بكثير: اسمه. "من يكون الشامي؟" و"ما اسمه الحقيقيّ؟" هما النتيجتان اللتان تتصدّران أي بحث في غوغل. وقد أسهم الشامي في بناء هالة الغموض هذه، عبر تضمين أغنياته أسماء فتيات (ليلى، وسما) ما أثار فضول جمهوره حول هوية الفتيات وعلاقته بهنّ.

وعليه تحوّل الشاميّ، ابن الثلاثة وعشرين عاماً، إلى لغز، بالنسبة لمحبّيه وكارهيه. الفئة الأولى تريد فكّ اللغز الذي هو اسمه وشخصيته. أمّا الثانية، فهي مهتمّة بفهم سرّ نجاحه والذائقة السمعية لجيلٍ كامل، أو ما يعرف بجيل "تيك توك". لكنّ وضع اللوم على "تيك توك" والثقافة الشعبية للجيل الصاعد Gen Z، فيه شيء من فقدان الذاكرة قصيرة المدى. ما يعتبره البعض هبوطاً في الثقافة الموسيقية ليس سوى امتداد لعقودٍ من الأحادية الإنتاجية وسطوة "روتانا" على المشهد الموسيقي العربي، أدت إلى استبعاد معظم الأصوات البديلة، في ظلّ إنكماش "الأندرغراوند".

جيل الواو
مع ذلك، يمكن تلمّس سمة خاصّة يتميّز بها هذا الجيل، وهي القدرة على الانبهار. في محاولتي لفهم جاذبية الشامي في عيون جمهوره، لجأت الى الانترنت وتعليقات المستخدمين وصنّاع المحتوى. إنّ تفاعل جمهور الشامي مع موسيقاه، يمكن اختزاله بعبارة واحدة هي "واو": الكلمات.. "واو!" والتوزيع "واو واو!!".. والفيديو "واو كتير كتير حلو!" وبعد الإنبهار الأوّلي، ما من انطباعات أكثر عمقاً. لا تحليل للمضمون أو الشكل أو حتى الأثر أبعد من شعور "الواو".

فلنفرّغ إذاً هذه "الواو"، علّنا نجد ما هو جدير، أقّله، بالإعجاب.

يُحسب للشامي، في ما يتعلّق بكلمات الأغاني، خروجه عن الموضوعات المعهودة في البوب العربيّ. يتحدث اللاجئ السوريّ المقيم في تركيا منذ طفولته، عن تجربته مع اللجوء و"أزمة الانتماء". أمّا في غنائه للحبيبة، فيكشف خطاب الشامي نظرة شابّ عصري، يمكن حتّى وصفه بالتقدّمي، لـ"رفيقة دربه" التي يحثّها على "التمرّد على القضبان".


إلا أنّ ذلك لا يثني الشامي عن الغرق في بحرٍ من الكليشيهات. فخروجه عن المألوف من ناحية الموضوع العامّ، لا يُترجم على مستوى الأبيات المحشوة بمفرداتٍ مستهلكة، تنتمي بمعظمها إلى معجمَيّ الحبّ والموت. هي عبارات جاهزة قد تبدو شاعرية للوهلة الأولى إلا أنها في الحقيقة لا تعني شيئاً. نذكر مثلاً "عيونك تروي العيون".. "أرمي عداكي بلوم". أمّا عبارة "سمعت صمت الهدوء"، فهي قمّة الإبداع في نظر جمهوره: "واو شو deep!" كان التعليق الأكثر توارداً.

كذلك يحضر معجم الموت في خطاب الشابّ العشرينيّ، صاحب الوجه الوسيم والستايل العصري، عبر عباراتٍ مثل "الكفن" و"أفديكي" و"قربان"... هي مصطلحات تحاكي، لا بل تمجّد، خطاب الآباء، ومن سبقهم. تذكّر هذه الكلمات، فضلاً عن طريقة غناء الشاميّ، بجنرا من الغناء الريفيّ المصحوب بنبرة نحيب، والذي ظلّ هامشياًً ولم يرق يوماً إلى مستوى المينستريم (مجيد الرمح مثالاً).

ولعل هذا التوجّه الذي يخطّه الشامي مثير للقلق بعض الشيء. فهو يضعنا أمام أسئلةً حول ما يشكّل التيّار "العصري" للموسيقى العربية. ففي مقابل النزعة الواضحة لإنتاج موسيقى الكترونية بأنماط وإيقاعات عصرية، يظهر في كلماته كما في الألحان الشرقية المستهلكة، رجوع إلى الماضي. أما غناؤه، فهو أقرب للإنشاد الديني التقليدي. باختصار، يجسّد الشاميّ  كلّ ما هو بعيد من الحداثة، وإن كان مموّهاً بقالب حداثيّ. وهذا مؤشّر مهمّ بالنسبة لثقافة جيل "تيك توك" العربيّ وعلاقته بالحداثة.

لعلّ النقمة على نموذج الشامي هي في جوهرها نقمة على جيله، الذي أتاح له التطوّر التكنولوجي ما لم يتوافر لفناني الأمس، من مساحة للإستكشاف والإنتاج البديل. وفي حين بدأت جهود فناني المشهد البديل تؤتي ثمارها، مع نضوج ملامح هذا المشهد، يظهر في المقابل تيّار شابَ، يبدو أّنه مُصمّم على تسخير فُرصه ومنصّاته لإعادة تدوير الفنّ السائد، بنكهة شعبية منتهية الصلاحية.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها