الإثنين 2017/02/13

آخر تحديث: 19:23 (بيروت)

حفاظاً على الإذاعة.. بالإذن من اليونيسكو

الإثنين 2017/02/13
حفاظاً على الإذاعة.. بالإذن من اليونيسكو
ميزتها أنها ما زالت منفصلة عن النسق الميديوي المنتشر
increase حجم الخط decrease
في رسالتها بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة، شددت المديرة العامة لليونيسكو، إيرينا بوكوفا، على كون الإذاعة "المحفل الدائم القادر على الجمع بين مختلف الأفراد والجماعات، إذ تظل في جميع الأحوال والأوقات... مصدراً مهماً للغاية للمعلومات والمعارف، يشمل مختلف الأجيال والثقافات، ويطلعنا على الدرر المكنونة في تنوع البشرية، ويصلنا بسائر أرجاء العالم أينما كنا". 
تناولت هذه الرسالة الإذاعة على أساس المدونة المعولمة لحقوق الإنسان، ومقولاتها، بحيث نظرت إليها بالإنطلاق من دورها في بث الحوار، والسلام، والوحدة، فضلاً عن "توطيد الحكم الرشيد وترسيخ سيادة القانون وتدعيم الاندماج". لكنها، بذلك، أفقدت الإذاعة خصوصيتها. ففي حال استبدلنا موضوع الرسالة بآخر، من قبيل التلفزيون، من الممكن أن نجد أن الكلام عن الراديو ينطبق عليه أيضاً، كما لو أنهما متماثلان، ولا فرق بينهما، ما داما وسيلتين لتحقيق المبتغى إياه.

على أن قيمة الإذاعة وميزتها لا تتعلق اليوم بدورها في نشر خطاب محدد فقط، بل تكتسب أهميتها من كونها الوسيط الإعلامي، الذي لا يزال منفصلاً عن النسق الميديوي المنتشر القائم على الصورة والتفرج عليها. ذلك أن الإذاعة تبدو مستقلة من ناحية تكوين هوائها بوصفه موضوعاً للأذُن، ومن ناحية علاقتها بالغزارة المعلوماتية، إذ أنها لا تخضع إليها كلياً أسوةً بباقي الوسائل.

وهذا، من جراء أن السبيل الناقل للمعلومة، أي الصوت، لا يشكل مساحةً، من الممكن حشوه بالكثير من البيانات والبلاغات، كما يجري على الشاشة الصغيرة، أو على المواقع العنكبوتية. فبديهي القول أن الصوت المذاع لا يحمل في الوقت نفسه معلومتين، بل واحدة ومعينة، وهذا ما يكفل الإستماع إليها.

ينتج النسق الميديوي المنتشر وضع تشتيت الإنتباه، بحيث أنه يبث معلومات وافرة، ويترك لمتلقيها، وهو المتفرج، أن يصير تائهاً بينها، وما إفراطه في استهلاكها سوى طريق إلى ازدياد ضياعه، والعكس صحيح أيضاً. هذا، ما لا يمكن الوقوع عليه في عمل الإذاعة، التي تتصل بمتلقيها بالإستناد إلى تقديم معلومات مركزة، تنزل على مسمعه منفردة، فيختار الإستماع إليها، أو يتجاهلها، من دون أن يحمله ذلك إلى الضلال بينها.

في المقلب نفسه، تبدو الإذاعة أبعد من الإصابة بأمراض النسق الميديوي المنتشر، وأولها، داء الجذب المتفاقم. ففي حين أن الوسائل الإعلامية الأخرى تستهدف بصورها وأخبارها نزوعات متلقيها، التي ترتبط بالموت والجنس عموماً، من أجل شده صوبها، وجعله متسمراً في مقابلها، لا يمكن للإذاعة أن تحذو حذوها، بل تبقي على تعاملها معه بطريقة إنبائية أو ترفيهية خالصة، لا تشوبها أصوات نزوعية ولا تسعى إلى إثارته كي يتجمد في الإستماع إليها. 

وربما، من هنا، قد يصح تفسير صلة المستمعين بالراديو، بحيث أنهم يستأنسون بصوته، ويألفونه، وذلك، لأنه، وعلى الرغم من مرافقته لهم في المكتب والمنزل والسيارة وعلى الهاتف، يتيح لهم الشرود عنه. فمع أن الإذاعات أصبحت سانحة عبر التطبيقات الإلكترونية المتنوعة، لكنها، لا تجتاح عيش المستمعين، الذين يتلقوها بلا أن يتقيدوا بها، فغالباً ما يستمعون إلى الراديو في أثناء ممارستهم لأمور أخرى.

لقد مر أكثر من قرن على ولادة الإذاعة، ولا تزال قادرة على البقاء، والإنتشار، رغماً عن الإنفجار الميديو-صوري الحديث. وقد يصح وصفها بـ"الوسيلة التقليدية"، أو "الوسيط الأعمى"، طريقاً إلى نقد الإعلام المرئي، أو بالأحرى "المبصبص". ذلك، أن الإذاعة، بأثيرها وصوتها، استطاعت أن تصون نسقها الإعلامي، لا سيما من خلال حفاظها على صلتها بالمستمع من دون أن تصنعه باستهداف نزوعاته، أو بحَثّه على أن يكون مستمع متجمد ودائم. كما لو أن الإذاعة اليوم هي أول الإعلام، وهذا، في حين يظهر الإعلام في آخره، حيث يتسم باللهاث وراء عيون المتفرج وتكبيل انتباهه، وبالتالي، تبديده.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها