السبت 2017/12/16

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

"صائد العقول": القاتل المتسلسل كحجَّة لأسئلة وجودية

السبت 2017/12/16
"صائد العقول": القاتل المتسلسل كحجَّة لأسئلة وجودية
increase حجم الخط decrease
ربما تكون سلسلة "صائد العقول" MindHunter واحدة من أهم ما قدمته الدراما التلفزيونية العالمية td العام 2017 ولا يمكن سوى ترقب وانتظار الموسم الثاني منه قريباً. فالسلسلة التي أنتجتها "نيتفليكس" وطرحتها قبل أشهر، يشارك في إخراجها 4 مخرجين أبرزهم آصف كاباديا ودايفيد فينشر، لتقديم رحلة قاتمة ومشوقة وغامضة إلى داخل عقل القاتل المتسلسل (سيريال كيلر)، قبل اختراع المصطلح نفسه أصلاً.


بالنسبة لفينشر، وهو منتج المسلسل أيضاً، ليست "ساغا" القاتل المتسلسل سوى منطلق درامي لخلق حالة من التشويق سوداوي الطابع ونبش بعض الأسئلة الوجودية حول عدم قدرتنا كبشر على فهم أنفسنا أو حتى فهم بعضنا البعض أو فهم العالم الذي نعيش فيه، ويمكن تلمس جذورها في أفلامه السابقة مثل "سبعة" (Seven" (1995" الذي تجاوز فيه الحكاية السطحية المعتادة عن خطايا البشر القاتلة إلى عالم أوسع حول مخاطر التفكير في قدرة المرء على قهر الشر وأيضاً فيلم "Zodiac" (2007)، الذي وصل فيه لفكرة مرعبة مفادها أن حقيقة أي شيء تظل مجهولة في نهاية المطاف، من خلال الغوص عميقاً في فظاعات سفّاح سان فرانسيسيكو الستينيات.

والآن، يتشارك فينشر مع الكاتب والمؤلف جو بينال لإنجاز مسلسل قصير من إنتاج "نيتفليكس" حول بدايات وحدة جرائم القتل المتسلسل في مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، استناداً إلى كتاب توثيقي بعنوان "مايندهانتر: داخل وحدة النخبة بمكتب التحقيقات الفيدرالي لمكافحة جرائم القتل المتسلسل" يستكشف خلاله العميل الفيدرالي جون دوغلاس، وهو رئيس سابق لتلك الوحدة المتخصصة، الأبعاد السيكولوجية والدوافع وراء هذا النوع من الجرائم.


والحال أن المسلسل هو الجزء الأول من ثلاثية تلفزيونية لم يعلن عنها بشكل رسمي، مخصصة لثيمة القاتل المتسلسل، ومن المفترض عرض الموسم الثاني أواخر العام 2018 بحسب ما ألمح فينشر في تصريحات صحافية. وعلي الرغم من محافظة المسلسل على الخصائص المميزة لدراما التحقيقات الجنائية التقليدية، من شعور مصدّر بالعزلة المحيطة بأبطاله وضغط نفسي مثير للأعصاب ومُفقِد للثقة عموماً، إلا إن اعتماده على حوادث واقعية يجعله مصدراً لنظرة أكثر أملاً في إمكانية فهم وإدراك ما يبدو فوضوياً، وهي عملية يحققها عبر مزيج من التحليل والبحث والفضول والتعاطف.

تبدأ أحداث المسلسل العام 1979، وهو تاريخ وقوع واحدة من أكثر جرائم القتل المتسلسل صدمة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. حينها لم يكن مصطلح القاتل المتسلسل (سيريال كيلر) متداولاً، ولم يكن رجال الأمن الأميركيين يولون اهتماماً لدراسة الدوافع النفسية والسلوكية وراء مرتكبي تلك الجرائم. وتظهر أولى مشاهد المسلسل حالة فشل محبطة تأتي بعد جهد وإيهام، لتضع المتفرج نفسه داخل الموضوع الذي سيتابعه المسلسل طوال عشر حلقات، مع جهود العميل الفيدرالي ديفيد هولدن (يجسده باقتدار الممثل جوناثان غروف) لطرح آفاق جديدة في التحقيقات الجنائية تقوم على أخذ العوامل النفسية بعين الاعتبار، بعكس إصرار قياداته على التعامل مع المشتبه بهم والمجرمين باعتبارهم أشخاصاً يستحقون العقاب بشكل مجرد.

وبين التوثيق والواقع والخيال والنص الأكاديمي يتتبع المسلسل رحلة هولدن وزملاءه الجدد حول تطور علم الجريمة (Criminology) واستعادة تاريخه انطلاقاً من نظرية الطبيب الإيطالي تشيزاري لومبروزو صاحب نظرية "الرجل المجرم" العام 1872، وصولاً إلى التساؤلات الأحدث التي تشكل جوهر العمل: هل المجرمون ولدوا مجرمين أم تحولوا إلى مجرمين؟.. وما هو الشر؟.

يطور هولدن شراكة عملية مع العميل المخضرم بيل تينش (هولت مكالاني) رئيس قسم العلوم السلوكية في مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي يُعجب برغبة هولدن في إدخال التحليل النفسي إلى معادلة اصطياد المجرمين، وفكرته حول "كيف يمكننا التفوق على المجانين إذا لم نكن نعرف كيف يفكر المجانين؟"، ويبدآن معاً رحلة مكوكية من الزيارات للسجون بغرض إجراء مقابلات مع فئة جديدة من القتلة المتسلسلين الحقيقيين ومساعدة الشرطة المحلية بموازاة ذلك لحل ألغاز طارئة معقدة. وهكذا، يضع "مايندهانتر" اللبنة الأولى لحبكته الممتدة، فالحكاية ليست عن جريمة بعينها، بل عن السفاحين ودواخلهم.

ومن بلدة إلى أخرى، ومن جريمة محيرة إلى محادثة مع مريض نفسي قاتل، يتعزز المشرع البحثي لكل من هولدن وتينش بانضمام فرد ثالث إلي الفريق هي الأستاذة الجامعية وباحثة علم النفس ويندي كار (آنا تورف)، التي تؤمن بأن الطريقة المنهجية لجمع وتقسيم البيانات وسيلة رائعة لفك شفرة القاتل المتسلسل. وكما هو الحال في العديد من مسلسلات "نيتفليكس" يأخذ الأمر ست حلقات كاملة للوصول إلى هذه النقطة السردية الأساسية، حين يصبح مشروع الفريق الثلاثي رسمياً ويحظى بدعم مباشر من السلطات.

في قلب حكايته، يهتم "مايندهانتر" بالطريقة التي يمكن بها إقامة عملية تواصل ونقل معلومات ناجحة، وهو ما نلمحه من التأسيس الثيماتيكي أثناء المشهد المبكر لحصار الرهائن، حين يستمر الرجل المسلّح الذي يعتقد أنه غير مرئي بالنسبة للآخرين، في سؤال هولدن بإلحاح: "هل يمكنك رؤيتي؟". وسواء كانت المواجهة ثنائية أو ثلاثية أو أياً كان عدد أطرافها، فإن المسلسل لا يفوّت فرصة واحدة للغوص بداخل رغبة شخصياته في خلق حوار مع أولئك الذين لا يفهمونهم. أي أنه مزيج درامي مثير ينزل بالعقل إلى أرض الجنون والارتياب.

إلى ذلك، يوزّع المسلسل اهتمامه على نقاط مختلفة، بما في ذلك تلك اللقطات المتلصصة التي تتابع إحدى الشخصيات الغامضة في افتتاحية كل حلقة. لكن في قلب هذه الخارطة السايكولوجية المعقدة، يحضر حماس أبطاله لفهم ما يبعد مناله عن إدراكهم، بما في ذلك أفكارهم الخاصة ومشاعرهم وحياتهم، ليجدوا أنفسهم مع كل منعطف يبدأون طريقاً لاستكشاف ذواتهم: من هم؟ ولماذا يتصرفون على هذا النحو؟

على طول هذا المسار الدرامي، يقارب المسلسل ثيمات غنية ومتعددة ومختلفة للغاية، بدءاً من الأسئلة المألوفة في مسلسلات من هذا النوع حول الجريمة والسلوك الإجرامي، مروراً بمساءلة المدى العلمي والمنهجي الذي تتبناه المؤسسة الأمنية أو الذي تطمح إليه، وتلميحات حول وصول الاعتلال النفسي إلى شخصيات قيادية، كرئيس دولة مثلاً، وإثارة أسئلة مضافة تمس مشكلات أمنية راهنة في مناطق بعيدة جداً عن الولايات المتحدة، كالإرهاب في مصر مثلاً، وصولا إلى تقديم حبكات جانبية مطبوخة على نار هادئة حول الحب والزواج والأبوة وهوس الوصول إلى الحقيقة، تضفي أبعاداً مثيرة على مادة درامية من السهل جداً أن تصبح مللاً خالصاً في أيدي أشخاص أقل مهارة وحرفية.

في ضوء ذلك، تبرز مقاربات لا بد منها بشأن الفارق الحضاري بين الدول المتحضرة والشرق الأوسط، ففي الولايات المتحدة حسب قصة المسلسل الواقعية يتم اعتماد العلم لحل ما يتعذر فهمه وإدراكه. فإن قام شخص ما بتفجير نفسه في أبناء وطنه، فهذا يستلزم دراسة نفسية وسلوكية ومعرفية للوقوف على أسباب ارتكابه لذلك الفعل المجنون والإرهابي، ولا يختلف ذلك عن قضايا القتل المتسلسل وأي نمط آخر من الجرائم التي تطرح أسئلة جديدة تحتاج تفسيراً وإجابة، وهذا يتطلب التفكير خارج الصندوق بدلاً من اجترار الهراء الأمني أو إلصاق التهم بالأبرياء وانتزاع الاعترافات منهم عنوة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها