الإثنين 2024/04/01

آخر تحديث: 12:24 (بيروت)

"تل أبيب – بيروت".. أي سلام ستصنعه الأمهات؟

الإثنين 2024/04/01
"تل أبيب – بيروت".. أي سلام ستصنعه الأمهات؟
يهمل الفيلم الأسئلة السياسية ليتعمّق في حالات إنسانية
increase حجم الخط decrease
في العام 2000، بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، ساعد يوسي، الضابط الإسرائيلي، صديقه اللبناني فؤاد على الفرار من البلاد لتجنّب العقاب، بعد تعاونه معهم طيلة 16 عاماً. يلجأ فؤاد إلى إسرائيل مع ابنته تانيا. وبعد سنوات قليلة، تندلع حرب جديدة في لبنان، ما يتسبب في توترات على الحدود الإسرائيلية. تقرّر مريم، زوجة يوسي، الذهاب إلى هناك وتطلب مساعدة تانيا في البحث عن ابنها الجندي، الذي لم تظهر أي علامة على نجاته منذ ذلك الحين. ستسمح هذه الرحلة للمرأتين بمشاركة أحزانهما معاً، وخوض رحلة شفاء مرجو.

هذه هي النبذة التعريفية لفيلم "تل أبيب ـ بيروت" للمخرجة الإسرائيلية الفرنسية من أصول مغربية ميشال بو غانم. وهي تقول شيئاً عن موقع الفيلم ونظرة صانعيه ورؤيته لـ"الصراع"، فالمخرجة تنشغل في فيلمها بتجريد الحرب وإهمال أسبابها الحقيقية والمتجذّرة للتركيز أكثر على تأثيرها في مصائر وأفراد ومآلات. بابتسار وتسطيح، تتوارى المعارك والصراعات العسكرية خلف الانشغال بقضايا اللجوء والمنفى والانسلاح، مثلما بمسائل الأمومة والخيانة.

رؤيتها واقتراحها نابعان من تجربتها الشخصية كمواطنة إسرائيلية من أصول عربية شهدت حروباً عديدة في بلدٍ لا يكفّ عن شنّ حروب همجية، مثل حرب 2006 التي يختم بها الفيلم سرديته حول المنفى والبحث عن الهوية. شواغل تُكمل مسيرة المخرجة السابقة، التي تستحضر اضطرابات التاريخ والجغرافيا. فبعد ثلاثة أفلام وثائقية - "أرض غاضبة" عن كارثة تشيرنوبيل، و"أوديسا..أوديسا" عن المنفى الذي تعرّض له اليهود من تلك المدينة، وأخيراً "مزراحيم" عن اليهود الشرقيين في إسرائيل - تتوجّه المخرجة في "تل أبيب – بيروت" صوب دراما إنسانية ووجودية تتتبع حياة عائلتين، تجمعهما الحرب وتفرّقهما السياسة، على جانبي الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

يتأسّس الصراع الدرامي العام للفيلم عبر مثلث يكمل أضلاعه فرقاء ثلاثة يتواجهون: المحتلّ والمقاوم والمتعاون. أثناء احتلال جنوب لبنان من 1982 إلى 2000، قام الجيش الإسرائيلي بحماية وتمويل مليشيا لبنانية تخلّى عنها في ما بعد: "جيش لبنان الجنوبي" أو "جيش أنطوان لحد". من وجهة نظر بطلتين عاجزتين نشأتا على طرفي نقيض من الحدود، تروي ميشال بو غانم قصة هذا التحالف المتفجّر، على حافة الصداقة والغدر. وهي بذلك تستنكر المصير الكارثي للبنانيين الذين اضطروا، بعد العام 2000، إلى الإقامة في إسرائيل من دون جواز سفر. يشبه مصيرهم في كثير من النواحي مصير الحركيين في حرب الجزائر، ممن يُعتبرون إلى الآن خونة ومنبوذين في وطنهم.

يخطو الفيلم إلى الوراء قليلاً، إلى العام 1984. مع احتدام الحرب في لبنان، يقاتل جندي شاب من جيش الاحتلال الإسرائيلي، يوسي، في بيروت بينما شريكته مريم، من أصل فرنسي، على وشك الولادة في الجانب الآخر من الحدود. في هذه المدينة الشهيدة، حيث الخطر يفرض قوانينه في كل مكان، يلتقي يوسي بفؤاد، أحد "المتعاونين" المحليين مع الجيش الإسرائيلي لمحاربة نفوذ حزب الله. تنشأ بين الرجلين صداقة غامضة، سرعان ما تتحطّم على ضخرة الحقائق المروّعة للصراع. زوجة فؤاد، وهي واحدة من العديد من المدنيين، قُتلت بصاروخ. واضطر فؤاد، بعد الرحيل المتسرّع للجيش الإسرائيلي، الذي ترك "أصدقاءه"، إلى مغادرة بيروت إلى إسرائيل مع إحدى بناته على عجل هرباً من حكم الإعدام المؤكّد من "إخوته" اللبنانيين.


وجهاً لوجه، جنباً إلى جنب، دولتان (إسرائيل ولبنان)، عائلتان، ديانتان؛ في خضم فترة ملتهبة تخللتها حروب متكررة، صمدتْ امرأتان، تانيا ومريم. التاريخ يكسر مصيرهما: الجيش الإسرائيلي يدفع للمتعاونين اللبنانيين ثم يتخلّى عنهم. في مجتمع اللاجئين اللبنانيين في إسرائيل، بين هذه الشخصيات المتقلبة، هل الصداقة ممكنة؟ تتفحّص ميشال بوغانم، المولودة في حيفا، هذا الصراع الذي لا ينتهي، وتشاهد بعاطفةٍ كيف تنتقل المظالم والألم واليأس من جيل إلى جيل. وسط أنقاض الشرق الأوسط، تُظهر أن النساء هن حاملات الأمل، في دعوة للتغلّب على حدودٍ لا يمكن قهرها يفرضها صخب السلاح والنظام الأبوي اللذان يفرضان بدورهما على الرجال مشاركة عسكرية لا تترك مجالاً كبيراً لاستقلال الروح. رسالة نبيلة بقدر سذاجتها، فضلاً طبعاً عن بؤس المنطلق البادئة منه والذي يعوّم كل شيء فيصير القاتل والقتيل والخائن والمقاوم جميعاً أسرى شبكة أقدار أكبر منهم.

"تل أبيب – بيروت" يبدأ من كلمتين، مدينتين، وعائلتين. واحدة لبنانية والأخرى إسرائيلية. على مدى ربع قرن تقريباً، من 1982 إلى 2006، تتابع ميشال بو غانم حيوات هاتين العشيرتين الصغيرتين، الممزّقتين بفعل حروب متكررة، طائشة ومجانية أحياناً. حكاية شاملة وطموحة للغاية، لكنها غالباً ما تذهب للفراغ. تمرّ السنين، وتتتابع المَشاهد في لمح البصر، وكذلك الكوارث. لا يتحقق التأثير الدرامي أبداً. يُتجاهل كل حدث (بما في ذلك مقتل الأمّ في البداية). مدعوماً أحياناً بذكريات الماضي التوضيحية، وأحياناً بمشاعر خشنة وفاقعة. يتفكّك الفيلم تدريجياً، ويتشابك في قصصٍ ثانوية. وينتهي الأمر بتتويه نفسه في موضوعه ومشاعره. عمل مُشوَّش في أفضل الأوصاف.

عديدة وعجيبة هي التجارب المشابهة لهذا الفيلم الذي يساهم بمقترحه الفنّي في تمنّي سلام بين بلدين لم تجمعهما إلا الدماء، ومثله نصوص تروّج للسلام نظرياً وسياسياً وثقافياً أيضاً. لكن عيباً واحداً خطيراً يمنع هذا المقترح وتلك المحاولات من بلوغ مسعاها (بافتراض حُسن النوايا)، وهو المتمثل بسذاجة الفكرة القائلة بأن الأدب والثقافة (والترابط النسائي والأمومي خاصة، في هذه الحالة) يمتلكان قدرة سحرية لا تتوافر لدى السياسيين على تقديم البديل. وهذه أيضاً، بمعنى من المعاني، دعاية إسرائيلية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها