الثلاثاء 2016/03/29

آخر تحديث: 15:10 (بيروت)

مسلخ الصحف

الثلاثاء 2016/03/29
مسلخ الصحف
رسم: حسن بليبل
increase حجم الخط decrease
عندما يعزم صاحب "السفير" طلال سلمان على إصدار جريدته، يقول: "سنأكل من لحمنا ونستمر"، وعندما تصرّ "النهار" على ظهورها، توجه نداءاً موقعاً عنوانه: "فلتصدر الصحف باللحم الحيّ". فنزوع الصحيفتين الـ"أنتربوفاجي" هذا ينطوي على رغبتهما في الإنكفاء إلى الجسد، والنهش به، لعلّ ذلك يكون سبيلهما إلى نفي أزمتهما كما لو أنها لم تقع.

على أن العودة إلى اللحم، تمزيقه والتهامه، بداعي البقاء على قيد الحضور الإعلامي، لا يعبّر، في حالة الصحافة المنهارة، عن تشبثها بعيشها بقدر ما يدل على تمويتها له عبر التعلق بتصور مقفل ودائم عنه: عيش خطي، لا يتخلله مآزق، رتيب، خائف، متمركز حول نفسه، لا ينتقل من مرحلة الى أخرى، لا يستدعي التبصر، لا يحدس المقبل، يستمد قوته من توهم موقعه.

واصلت الصحافة، وعلى طول مسيرتها، انتاج هذا التصور الرجعي، واليوم، حين تصطدم بوجودها المؤلف على منواله، تتمسك ببدنها، أي بشغيلتها، على إعتقاد أن هؤلاء ما زالوا كثيري اللحم، وبمقدورها الإنتفاع منه. فلا يدرك القيمون على "السفير" و"النهار" أن الصحافيين قد فقدوا لحمهم، وذلك، من جراء تصنيع تلك المؤسسات لهم على نحو يلائم تصورها عن وظيفتها ومسارها.

هذا ما يشير إليه تصرف صاحب "السفير" مع موظفيه، بحيث أنه، فجأةً، أقفل جريدتهم وقرر "أكل" تعويضاتهم، وبغتةً، عاد وفتحها، كأنهم لا يمضون أيامهم فيها، ولا يحبرون أوراقها. الأمر ذاته ينسحب على كاتب نداء "النهار"، الذي يعلم أن كلماته لن تفرج عنه، لأنها، ببساطة، مذبجة بعرق يسيل على جبينه كي يغني ويسمن غيره.

لقد كتب الفيلسوف الياباني أوشيدا تاستسوري ذات مرة أن "الوسائل الإعلامية شديدة الحاجة إلى لحم، ولا خيار لها سوى أن تصير كائنات حية". ولكي تضحى على هذه الحال، لا بد لها أن توفر لنفسها شروط الحياة بالتوازي مع إيفاء متابعيها، أكانوا قراء أو مشاهدين، حقوقهم. لكن، في أداء الصحافة المنهارة، لا النفس تحيا ولا المتابع يستحق، فبدل أن تكون مشكلتها الراهنة هي كيفية تقديم حق القراء فيها، تستبدلها بمشكلة أخرى، أي كيفية الغائها حق الصحافي فيها بعدما استوفت منه شروط عيشها.

ولا يتجلى هذا الأداء في حرمان الصحافيين من حقوقهم المالية، أو تأخير حرمانهم منها، فحسب، بل أنه، وقبل ذلك، يتبلور في إشاعة صورة وظيفية عن الصحافي، لا مجال لشغيلة الإعلام المقروء سوى أن يتمثلوا بها ويرددوا خطابها ويعملون على إيقاعها.

بالإنطلاق منها، على الصحافي أن يكون حاشداً سريعاً وتلقائياً لكل المعلومات بدون إدراك الهدف من جمعها، أن يحشر نفسه في زمن ضيق، أن يعلق قوله على الرأي العام و"عاطفته" الفورية، وعندما ينتبه الى أن لا قول له يعتقد بانقراض الرأي العام ذاته، أن يؤمن بسلطته خوفاً من السلطات الأخرى، التي يرتفع الى مرقبها، يدخل لعبتها، يصونها فتصونه، ويمضي عيشه على نمط المأهولين بها. أن يكتب لغوه بلغة مكتوبة عنه، أن يلاحق القارئ أينما ذهب بدل أن يذهب إلى أمكنة لا يصل القارئ إليها، أن يمرر من تحت "المهنية" و"الموضوعية" جرائم الطغاة وأخبار قتلاهم، أن يصطبغ باللون الرمادي كي لا يظن نفسه مضللاً، أن يسبِّق اسمه على مقالته معتبراً أن الأول هو منتهى الثانية...

هكذا، يسلم نفسه للمسلخ، الذي لما يقفل، ينتبه إلى أنه فقد لحمه فيه، أو أن لحمه بات ميتاً على الأقل، وها هم اصحاب المؤسسات الصحافية يطالبونه بعظمه.

أيها الصحافيون، استردوا لحمكم!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها