السبت 2014/12/06

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

جامعة الزجاجات

السبت 2014/12/06
جامعة الزجاجات
increase حجم الخط decrease

(إدمونتون، البراري الكندية...)

في ذلك الحيّ للطبقة المتوسطة الميسورة، من كنديين بيض، ومهاجرين من شتى أنحاء المعمورة، ببيوته المتشابهة والمقفلة على أنماط حياة متشابهة وإن بروائح توابل مختلفة على موائدها تعكس أصول قاطنيها العرقية، أراها تسير بمعطف كالح بال، وحذائين مهترئين تظهر من شقوقهما أصابع قدميها العجفاء المتيبسة. هي غادرت الستين منذ فترة، أو هكذا تبدو. بملامح قد تلتبس عليك في البداية، تظنها ربما آسيوية، لكنك إذ أعملت التفكير فستعرف على الفور إنها من "السكان الأصليين" لتلك القارة، والذين اعتدنا في العالم القديم على تسميتهم بـ"الهنود الحمر".

يمرّ مهاجر من أصول فلبينية بسيارته الفارهة ذات الدفع الرباعي، ويلتفت إذ يلمحها واقفةً عند ناصية الشارع ويتفحصها بنظرة تجمع الاشمئزاز والرثاء، وتمر مجموعة من التلاميذ، عائدين من المدرسة القريبة. خلطة عرقية من الأطفال: عرب وباكستانيين وكنديين بيض وصينيين، يتهامسون وهم يشيرون إليها من طرف. يخافها الأطفال كأنها تُجسد لهم ما نعرفه في أساطيرنا بـ"أمّنا الغولة"، وهي موجودة كلّ يوم في موعد انصرافهم المدرسي، تؤرق صفاء أحلامهم الغضة.

هي في الحقيقة تؤرق صفاء أحلام الحي البرجوازي بأكمله، وتقض مضاجع المهاجرين الطموحين. أما الكنديون البيض، الغزاة، والمهاجرون الأوائل، فقد اعتادوا على تناسي ذلك الكابوس منذ أجيال. تقول بهيئتها الرثة ووجهها المنحوت من خشب داكن، ونظراتها التي تحمل تحت الاستجداء غضب مكتوم: "أنا صاحبة الأرض، وذلك الرفاه الذي تنعمون فيه من دمائنا، ولم نجن سوى الإزاحة والتهميش".

تفوت على عتبات البيوت، تجمع مخلفاتها من زجاجات فارغة وعلب صفيحة في كيس أسود كبير من ذلك النوع المخصص للفضلات، تحمله كالخُرج على ظهرها. هناك وكالات لإعادة التدوير تشتري الزجاجات الفارغة والعُلب مقابل سنتات لكل واحدة، وهي تتعيش من ذلك، وسيطةً بين دورة رأس المال والدورة المنبثقة عنها تجاه اقتصاد الاسترجاع، الذي ينتج بدوره بضائع الدرجة الثانية المطروحة لاستهلاك أمثالها من المهمشين في العالم.

أراها يومياً في طريقي لأخذ ابني ذي السنوات الست من المدرسة. تقف في موعد معين بتلك الزاوية عن تقاطع الشارعين الرئيسين، بعد أن تنهي جولتها على مداخل بيوت المنطقة. تطرق الأبواب أو فقط تجمع "الغنائم" التي تركها السكان على الطوار. تقف حينها صامتة كتمثال، تحرك عينيها نحو البشر المارين، دون أن تحرك رأسها. تبادلهم النظرات.

أنا أيضاً مهاجرٌ، لكني أدّعي أن طموحي مختلف. لست كهؤلاء السعداء بسيارات الدفع الرباعي وشوايات الـ"بار بي كيو" في الحديقة الخلفية. لا تلهبيني بنظراتك يا ربة الطوطم، يا ميدوزا العالم الجديد.

في بداية مشواري، كان الثلج يتساقط في ندفاً متطايرة كنثار القطن الهش، قبل أن تهب العاصفة فيستحيل الجو إلى جحيم أبيض. سعير مقلوب من الحرارة المنخفضة. كنت أسير ممسكاً بيد الصغير، أكاد أعدو به على الطوار، كي نبلغ البيت. أشعر أن المئتي متر المتبقية حتى نصل قد صارت أميالاً من الصقيع. التفت خلفي فأرى الميدوزا تتعقبنا بنظراتها النارية. تتعقب الأغراب الغزاة صامدةً تحت العاصفة تكاد الثلوج أن تردمها في وقفتها فيما الكيس الأسود يتدلى لا يزال على ظهرها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب