الثلاثاء 2014/10/07

آخر تحديث: 14:48 (بيروت)

.. وما زالت نادية كورال

الثلاثاء 2014/10/07
.. وما زالت نادية كورال
أشرف عبد الباقي فيلم "رومانتيكا"
increase حجم الخط decrease

في اللحظة التي سبقت تعميم وسائل الاتصال الحديثة، الانترنت والهواتف المحمولة، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، كانت الحاجة قد نشأت بالفعل لـ"دوام حال الاتصال"، قبل أن تظهر في الأسواق تلك الوسائط لتكون "في أيدي الجميع". كان المرء قد بدأ يستشعر بالفعل رغبته القوية في تواصل بلا هدف، مع الآخر، أي آخر. وإن وُجِدَ الهدف فلا مانع.

كان للهواتف الأرضية بريقها الأخير في تلك اللحظة المفصلية. الاتصالات لم تخصخص بعد، ولا تزال الحكومات تهيمن عليها. لم تكن ثمة مراكز اتصال خاصة، كتلك التي باتت بعد ذلك منتشرة في الأزقة والحواري الشعبية؛ فقط تلك الحكومية والمعروفة شعبياً بالسنترالات، تحتكر المكالمات الدولية والبرقيات وخدمات أخرى بائدة كالتيليكس. لكن، كان بمقدورك أن تستخدم هاتف البقّال، وبائع السجائر. وكنتَ تجد الزبائن لدى الباعة يتكالبون، لا على البضائع، لكن على تليفونات الحوانيت التي تؤجر للمارة بربع جنيه للمكالمة. يقفون في طوابير ينتظرون دورهم مع الهاتف، وهو ما كان يدرّ دخلاً كبيراً على أصحاب الحوانيت. وفي ذلك التوقيت صنع المخرج زكي فطين، نجل المطربة الراحلة ليلى مراد، فيلمه الوحيد "رومانتيكا" عن عالم "الخرتية"، أي صائدي السائحين في وسط البلد. وقد صوّر جانباً كبيراً من الفيلم في مقهى "الحرية" الشهير في منطقة باب اللوق. وقد كان المقهى، ولا يزال فيما أعتقد، مقرّاً للخرتية.  وفي الفيلم شخص طريف، كان الممثل الراحل علاء ولّي الدين هو من قام بدوره، نراه طوال الفيلم يكلّم حبيبته من تليفون المقهى.

كان صديقنا، الذي سبقنا للتخرج في الجامعة ببضع سنوات ويعمل مدرساً للأطفال، يجرجرنا خلفه في الأماسي ليهاتف حبيبته، وقد كانت تجمعهما علاقة إشكالية، فلا هما يجتمعان في رباط من أي نوع ولا يفترقان بالمعروف. يهاتفها من لدى الباعة، ومن مراكز الاتصال الحكومية (السنترالات) لساعات، في مفاوضات وملاوعات لا تنتهي. ولقد رأيتها في تلك الأيام، في "سنترال الألفي" القابع خلف فندق وندسور العتيق بباره كولونيالي الطراز. على حوائط السنترال الداخلية كانت تصطف معلقةً تليفونات العملة، بخمسة قروش أو عشرة من عملات ذلك الزمان الفضية. لم يمض ربع قرن بعد، والتهم التضخم تلك العملات ليحيلها إلى آثار بائدة. كانت قد وضعت على جسد التليفون المعدني الأخضر، كومةً من تلك العملات كالبرج متراكمة فوق بعضها، وشرعت تٌجري مكالمةً تلو الأخرى: "ألو... الأستاذ صلاح الشرنوبي؟ أنا نادية كورال... مافيش شغل... شكراً".

الصيغة نفسها تكررت مع أكثر من اسم: "الأستاذ عمار الشريعي" ثم "الأستاذ الموجي الصغير" ثم "الأستاذ حسن أبو السعود". لم يكن من الصعب تخيّل القصة.. هذه منشدة في أحد الكورالات النسائية تهاتف الملحنين والموسيقيين بحثاً عن عمل، تسجيل استوديو أو حفل غنائي. لكن، في اصطفاف القطع النقدية فوق بعضها، وإلحاحها في اجراء المكالمات بالنبرة المحايدة نفسها، كان هناك يأس يتجاوز فكرة البحث عن عمل. كانت تتصل بغض النظر عن الهدف. امرأة أربعينية، كما كنت أراها في بدايات عشريناتي، بيضاء بملابس قديمة. تنّورة سوداء وقميص أبيض متهرئان. يبدو أنّها ملابس العمل وقد ارتدتها لتكون على أهبة الاستعداد لدى أي استدعاء. وفي ذلك الزمن، كان عليها أن تستدعي العمل بنفسها، وتواصل المهاتفة بلا أمل لتجاوز عزلتها البادية...

وتمرّ الأيام. ويصبح المحمول في أيدي الجميع، والانترنت في كلّ بيت. توالت أجيال الوسائط بوتيرة رهيبة. وبدا ربع القرن الأخير وكأنّه دهور من التطوّر. من الانترنت على خطوط الهاتف الأرضي، إلى الانترنت السريع في وصلات الألياف الضوئية. ومن الكومبيوتر المحمول، إلى الهواتف الذكية، ودمج الوسيطين معاً في آلة واحدة. أنت متصل أينما حللت، ولك إحداثية على الشبكة الكبيرة تحدد موقعك في الكون.

بين العامين 2000 و2009 كنت ماراً أمام التلفزيون، كأحد أضرحة العصر التماثلي في خضم العصر الرقمي، عندما لمحت المطرب هاني شاكر على الشاشة بوجه طفل يخطو نحو السبعين، يُنشد: "على مشوار عمرنا... "، ومن خلفه تردد جوقة نسائية بأصوات رفيعة "اتكلّم...". كانت حزمة من الضوء تسقط على امرأة من بينهن، في خمسيناتها، بيضاء بقميص أبيض وتنورة سوداء، أخفت المسافة ومرشحات العدسات اتساخهما.
نادية كورال، ولا أحد سواها. ترى أين هي الآن؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب