الجمعة 2013/03/01

آخر تحديث: 04:21 (بيروت)

شيطانان في الجنة

الجمعة 2013/03/01
increase حجم الخط decrease
 ثم كنتُ فجأةً على أحد شواطئ "ساحل الشمس" بمدينة فالنسيا الإسبانية مع صديقي أحمد يماني. لم نكن قد التقينا منذ سنوات، وها أنا ذا أزوره في مستقرّه الأوروبي. وكنا جالسين ندخِّنُ بألبسة البحر تحت الشمسية، وبيننا صندوق من البلاستيك الأحمر، هو ثلاجة صغيرة مبطّنة تحوي عُلب البيرة الباردة، وقد جرعنا بالفعل بعضها وانتعش مزاجنا، فأخذنا نستعيد ذكريات أيام "الزحف على التراب" في قاهرة التسعينيات.
النساء من حولنا على الشاطئ، كنّ بنسبة تسعين بالمائة منهن عاريات الصدور، مُتجرّدات من القطعة العلوية من "المايوه". أثداء حرة طليقة، من الكواعب ومروراً بالنواهد فالمتوسطات فالمكتنزات فالممتلئات وحتى المترهلات من العجائز. لم نستطع ـ بجوعنا الشرقي ـ أن نمنع أنفسنا من التطلّع. نرمقهن بنظرات تختلس: يماني من خلف نظارته السوداء، وأنا من خلف نظارتي العادية وقد انعكست عليها أشعة الشمس. ننظر ولا ننظر على طريقة السيد بالومار لدى كالفينو، وندخّن وكأننا غير مكترثين فيما نطلق تعليقات وننفجر لها ضحكاً، وحسب المشهد الذي يمر أمامنا.. واعتماداً على جهل المحيطين بنا بلغتنا العربية وقد قُدناها إلى دروب وحشية من البذاءة والفحش. 
ولما تصاعد مفعول الكحول بسبب الحرارة وهواء البحر المشبع باليود، قرّرنا أن نتلبّس شخصيتي صعلوكين من حواري القاهرة الداخلية وقد وجدا نفسيهما وسط هذا الحفل من العُري غير المعتاد. وارتفعت أصواتنا أكثر فأكثر، وتتالت الدعابات سوقيةً ومحملةً بكل ما في الثقافة الشعبية من حسٍ ذكوري عن النساء، وكأن الكحول واغترابنا اللغوي وروح المراهقة التي تتلبّس صديقين قديمين يلتقيان بعد غياب قد أطلقت العنان لكائنين داخلنا لم تهذّبهما الحضارة ولا عشرات الكتب التي قرآها. نطلق عبارات من قبيل: "شوف يا أخي الولية الشايبة العايبة" إذ تمر أمامنا عجوزٌ بثدييها الضامرين. وتنفجر القهقهات وعلب البيرة واحدةً خلف الأخرى، حتى جاءت اللحظة الكبيرة، وأخرج يماني من الثلاجة زجاجة "الكابا": وهو نبيذ إسباني فوار شديد الشبه بالشمبانيا الفرنسية، وفتح سدادتها لتنفجر الرغوة البيضاء وتطير الفلينة مسافة كبيرة حتى تستقر على حجر الفتاة التي كانت راقدة وحيدة تتشمس بالقرب من شمسيتنا. كانت شابةً في عشرينياتها، من القليلات اللائي ارتدين القطعة العلوية من لباس البحر، وربما لهذا السبب لم نلتفت إليها قبل تلك اللحظة.
هرع يماني ليعتذر لها بالإسبانية. فردت الفتاة بعربية قاهرية "لا ما فيش حاجة". بهت كلانا وذوت ابتسامة السكر بإفاقة مباغتة. وسألتها من موقعي: "بتتكلمي عربي؟".. قالت: "ومصرية كمان!".
لقد سمعت الفتاة كل بذاءاتنا الذكورية! وفجأةً تحوّل الشاطئ الإسباني الرحب المتحرّر إلى مكان برجوازي مصري شديد الضيق. وتحولنا نحن إلى اثنين من الرعاع "البيئة" أتت بهما الحياة عن طريق الخطأ إلى هذا المكان. لم يكن من سبيل للاعتذار، أو توضيح أننا كنّا نمثل شخصية اثنين من السوقيين، فمن يمثل البذاءة هو بذيء بالضرورة..
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب