الجمعة 2013/03/22

آخر تحديث: 08:35 (بيروت)

بلال ليس واحداً من مليون

الجمعة 2013/03/22
increase حجم الخط decrease
التقيت بلال للمرة الأولى عندما فرزنا الحصص الغذائية قبل بضعة أسابيع. "هذا ليس مكاناً للعب"، قلتُ معاتباً، إذ ما الذي يمكن لطفل مثله أن يفعله مع أكياس السكّر والرزّ الثقيلة؟ أعترف بأنّي لم أعطِه حقّه. فهذا الصبيّ ذو السنوات العشر، لم يكلّ أو يملّ وهو يحاول مساعدة عشرات المتطوّعين الموجودين. ذكيّ، يقظ، ما إن يحتاج أحدهم شيئاً حتى يركض إلى تلبيته. أتى أخوه الأكبر أكثر من مرّة ليتفقّده ويطالبه بالعودة إلى البيت، غير أنّه أبى إلّا أن يبقى معنا حتى بعدما بدأ المتطوّعون بالانصراف.
عرفتُ منه في ما بعد، أن عائلته أتت أخيراً من سوريا لتقطن إحد الكراجات القريبة. ومن يومها، بات وجهه الباسم مرافقاً لمدخل المسرح القريب حيث يقف ليبيع الروّاد زهوره البلاستيكية الحمراء. لطالما أزعجني هذا الشارع بوحشته وخلوّه من البشر. أتى بلال ليبدّد هذه الوحشة. ما إن يرى أحدنا حتى يهرع لمساعدته. ما أن يُفتح المستودع، أو تقبِل سيّارة، حتّى يُسرع إلى حمل الأغراض. لا تنفع اعتراضاتي في كون الأكياس ثقيلة على ظهره الغضّ.
ككلّ الأطفال، يحبّ بلال اللعب. يحبّ أن يكون له أصدقاء. يبحث في صحبتنا عن تعويضٍ للأصدقاء الذين حُرم منهم. عندما يرى حفلة ما في سرداب الكنيسة، يترك موقعه أمام باب المسرح ليتفرّج، مدفوعاً بفضوله الغريزيّ. يومه طويل ولا يدري كيف يملأه. حاول ذات مرّة أن يلقي نظرة على الكتاب الذي أحمله بيدي، فاكتشفتُ أنّه لا يعرف القراءة أو نسيَها. بدا أنّ كلّ ما تبقى لديه من آثار الدراسة، التي انقطع عنها منذ سنتين، هو أشكال الحروف. حصل منذ مدّة على درّاجة هوائيّة متهالكة لا أعرف من أين، فظلّ يقودها بفرح في الشارع أمام باب المسرح وبين السيارات إلى أن وقع أرضاً وكادت تدهسه سيّارة مسرعة. 
بلال واحد من مئات الأطفال السوريّين الموجودين في كلّ مكان هذه الأيام، عند إشارات المرور يبيعون الفستق والحلويّات، أو في شوارع بيروت التجاريّة يحاولون إقناع العشّاق بشراء ورودهم. أطفال سُرقت منهم طفولتهم، وانتُزعوا من بيئاتهم. يسكنني هاجسهم منذ أن سكن بلال شارعنا. تذكّرني ابتسامته الجميلة بالضحايا الأحياء للنكبة السوريّة. ثمّة ما ينبغي القيام به من أجل هؤلاء الصغار، أولئك القلائل الذين تسنّى لهم الهروب من جحيم الحرب. 
لكن، تمهّل قليلاً، لا تذهب بأحلامك بعيداً. هذا ما يقوله لي عقلي الباطن، أفلا ترى الواقع؟ أنظر إلى ما تنشره المواقع الاجتماعية هذه الأيام. أكاد أختنق كلّما وقع ناظري على واحدة من تلك الصور لنساء وأطفال سوريين مرفقة بهاشتاغ "واحد من مليون". مؤلم هذا الشعار الذي اعتمدته المنظمّات الإغاثية الأمميّة المختلفة للتذكير بحجم النكبة السورية. مؤلم، وحقيقي. يذكّرنا بما اقترفناه. يؤلمني أن أفكر في بلال ورفاقه على أنّهم واحد أو اثنين أو ثلاثة من مليون. لا، ليسوا أرقاماً، ولا ينبغي أن نسمح بأن يتحوّلوا مادة إحصائية تساعد في اجترار الأحزان لا غير. 
أخاف على بلال من الشارع، من رُهاب السوريين المنتشر هذه الأيام، ومن الفراغ. أخاف عليه وعلى أقرانه من انعدام الرجاء.
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب