الأحد 2017/08/20

آخر تحديث: 11:27 (بيروت)

وقفة مع جهنم

الأحد 2017/08/20
وقفة مع جهنم
increase حجم الخط decrease
يخيل لي في الحر الشديد، الذي تشهده بيروت الآن، أن الدماء، التي تسيل في أجسامنا، تتحول الى غراء. وهذا، ما يجعل جلودنا لزجة، وما أن تلامس غرضاً أو أحداً، حتى تلتصق به، ولا يعود بإمكانها الإنفصال عنه. ثم أن تحول الدماء الى غراء يصيب أمزجتنا بأثره، فتصبح متعكرة للغاية، فلا نقدر، بسببها، أن نتحمل ما نتحمله. وهكذا، يستوي الكلام والسلوك على الوتيرة نفسها، تفيد بالإسراع في الانتهاء من كل فعل نُقدم عليه، ذلك، كي نتجنب العلوق، وبالتالي، التعرق، والذوبان.
غراء بدلاً من الدماء، ويغدو من المتاح أن نصير جميعنا في جسد واحد، حيث نحتك ببعضنا البعض، وكلما وقع ذلك، نتكهرب، وتبدأ أعضاؤنا بالانتقال منا الى أغيارنا، فنجد رؤوسنا معلقة على أعناق ليست معدة لها مثلاً. وفي المحصلة، نضحي مزيجاً ضخماً، الانتماء اليه اجباري، والانفكاك عنه صعب وشاق.

فمحنتنا قاسية، ولا شيء يسعفنا على تلافيها. ننتظر نسمة هواء، تنزعنا من ذلك المزيج، لكنها، لا تأتي مهما سعينا إلينا. نفتح الأبواب والنوافذ، لكي نمهد استقبالها، نجلس على الشرفات، ننتظرها، ثم نغلق الأبواب والنوافذ اياها، وننسحب من الشرفات ذاتها، فندير المراوح والمكيفات، ومع ذلك، لا يتبدد إحساسنا بأن الريح المرغوبة لن تجيء من مكان.

غراء بدلاً من الدماء، ولأجسامنا، أياً كانت رشاقتها، أوزان. فجأةً، نشعر بها، وفجأةً، ننتبه الى أن رفعها عنا مستحيل. علينا أن نتعايش معها، وألا نضيف إليها ما يثقلها، علينا أن نتخفف كي نتمكن من حملها معنا أينما ذهبنا، وعلينا أن نعتقد بأن كل ما نقوم به، فاقدٌ للذته.

فالطعام بلا مذاق، والشرب، وإن أكثرنا منه، لا يسد عطشنا، والتدخين لا يبعث سوى على المرارة، والضحك يابس، والحزن ساذج، والغيظ موجود مسبقاً، أما، الغبطة فغائرة ونادرة.
غراء بدلاً من الدماء، نتأفف ولا نتوانى عن التأفف، كأننا مقتنعون بأن ذلك قد يبعد الحر عنا، الا أننا، ولما يطفح الكيل، نقرر السير في الشارع. نحدق في عيون بعضنا البعض، مفتشين عن أمر نجهله، لكن كل شيء من حولنا يأخذ طابعاً فولاذياً عنيفاً، ويذكرنا بأننا لن نخلص. نظراتنا تتكسر قبل أن تصل الى مطارحها، كلماتنا لا قوة لها على اجتياز مسافة طويلة بعد التلفظ بها، وحتى ايماءاتنا خالية من حدتها. نحن أجسام مشتعلة، تخفي في أجوافها أفراناً ملتهبة.

غراء بدلاً من الدماء، وينتابنا الحنين الى الشتاء، الذي نستحضر مطره وجليده، علّنا بذلك ننسى الصيف وحره. الا أن هذا يضاعف من قيظنا، مدركين أن تذكر البرد لن يشعرنا به، بل سيشعرنا بخسارته، وأحياناً، بالندم على كوننا، وفي أثنائه، تمنينا إضمحلاله. ولكي نسكن الندم، نتابع من وقت الى ثانٍ، نشرات الطقس ومواقع الأرصاد الجوية، التي، وعندما تخبرنا عن الحرارة والرطوبة، تحدثنا عن مصائرنا. نترقب منها نبأ ساراً، نتكهن، على أساسه، بأن جحيمنا مؤقت.

غراء بدلاً من الدماء، ولا يمكن لأي شخص أن يجيب عن سؤال "كيفك؟" بلا أن يبدأه بشتيمة يوجهها الى الحر، شتيمة لا نفع لها، شتيمة لا تغير في الوضع المتقد شيئاً، شتيمة، ما ان تنتهي حتى يزداد اضطرام الجو. وعندها، نقول أن الليل سيكون أقل حرارةً، وأن المزيج، الذي يتشكل منا، سيبلغ نهايته. يحل الليل، والغراء يجف، والدماء لا تسيل، والنوم يصبح شبيهاً بحادث سير، بحيث نرتطم بأجسادنا، قبل أن نستيقظ متخشبين، ومع ذلك، ينسكب الماء منا. غراء بدلاً من الدماء، والوقت بالكاد يجري، ملتصقاً بكل ما يلتقيه في دورانه، حتى يتصلب، ويتجمد: وقفة مع فصل من فصول جهنم!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها