الخميس 2017/04/13

آخر تحديث: 16:32 (بيروت)

بصقة على وجه المجتمع

الخميس 2017/04/13
بصقة على وجه المجتمع
لن تجذب مسامع المتطرفين أية دعوات تجديدات للخطاب الديني، فهم الدين وليس الخارج المحيط بهم!
increase حجم الخط decrease
إبان كل تفجير يستهدف الكنائس ويسقط إثره الأبرياء، يهلع الجميع على الشبكات الإجتماعية وفي الإعلام إلى الحل الوحيد، القديم والجديد، بالحماسة والأمل نفسه، "تجديد الخطاب الديني" يقولها كل منهم وكأنه أمسك بخلاصة الحكمة لتوه.


بات الأمر ساخراً للغاية في الأعوام الأخيرة، وكأن المتطرف الذي يذهب إلى المسجد ليصلي الفجر ويستمع لخطبة شيخ سلفي يعلم بأن الأجهزة الأمنية اختارته بعدما منعت شيخاً آخر، من المحتمل أن تتزعزع أفكاره فور إنصاته لكلام عن التماهي والتسامح! ومثله المتطرف الذي يعود إلى منزله فيشاهد تلفازاً، يكره كل من يظهر فيه، يعرض برامج يؤمن بتفاهة مقدميها، لتتغير ملامحه ويقشعر بدنه عندما يرى علماء الأمة وقادة تنويرها يتحدثون عن أفكار معدلة تضيفها الدولة لتجميل الدين، وكذلك الأمر مع المتطرف الذي يقرر الانتماء إلى "داعش" والتخلي عن أقرب صلات الدم فداء لعقيدته.

أساس أي معركة، أن تعرف عدوك، لكن المعركة في مصر لا تؤخذ على محمل الجدية ومن المطلوب استمرارها، فيكتفي الجميع بالصياح. أما الدولة التي تحارب الإرهاب، بالكمائن والدوريات المرورية، فلن تعرف عدوها أبداً. حتى لو قتلته، لن تعرفه.

المتطرف لا يصدق الدولة ولا التلفزيون ولا المفكرين ولا أي ممن هم خارج نطاق تجربته. لا يؤمن بالفردانية ولا بالأفكار الوسطية الجميلة. يرى المجتمع قطيعاً من الجبناء الذين لا يستحقون الحياة. يراهم فاقدين للمعنى والمتن الحقيقي، ويؤمن بالرسول كمجاهد، قاد 28 غزوة، لا كدرويش. كراهيته لكل من لا يؤمن بذلك، جزء أصيل من كراهيته للظلم والتدليس. أما رفضه المطلق، فهو الضامن الأول له للتمسك بطريقه، مهما زاغت نفسه. كما أنه يعرف أن غيره من أبناء ذلك الشعب البسيط، يشاركونه المشاعر والكراهية نفسها، لكنهم لا يقدمون على الانتماء للتنظيمات الجهادية، إما لظروف التورط بمسؤوليات الحياة، أو تمسكاً بالأهل والمقربين، فيندفع هو عكسياً ضد كل تلك الخطوط الحُمر، منطلقاً في طريقه بخفة التخلي، مفجّراً إياها قبل أن يفجر نفسه في أحدهم. ثم تنتظر أنت وغيرك أن يقتنع بكلمات وضعها من يأمل في هلاكهم.

وبين المتطرف وأقرانه من المتطرفين، صراع دائم، يأتي من الشعور بأن الأكثر تطرفاً لم يحدث بعد، وأن التنظيمات التي ينتمي إليها، برغم قتلها لكل هؤلاء الناس، وبراعتها في تحويل كل طاقة الكراهية إلى أفعال وحشية، لم تجعله يشعر بالرضا في قرارة نفسه، لأنه في النهاية يريد تدمير الجميع وليس البعض فقط.

ثم يمتد الصراع النفسي بينه وبين رموز حركة الدين، منذ بدايتها، لا يتسامح مع كل الرسل والأنبياء، يشعر بأفضلية دائماً نحو الله. لا يحب رموز الدعوة المتسامحين ويرى فيهم "التخاذل". يؤمن في قرارة نفسه بأن ما يمنعه عن سفك الدماء، سواء كان ذلك فكرة أو شخصاً، ينتمي بالضرورة للمعسكر الذي خرج منه بكامل إرادته مدفوعاً بالكراهية والاحتقار. ومهما كانت الأفكار التي قد تداعبته في لحظة تخبط، فإنه يقتلها دائماً في داخله.

وفي السجون المصرية يقبع آلاف الإسلاميين، ينتمي الكثيرون منهم للدواعش وغيرها من التنظيمات الجهادية، يمارسون كل الاحتقار لأبناء جماعة "الأخوان" التي يكفرون بمنهجها وأفكارها. مشاجرات عديدة وقعت بين أبناء المعسكرين في السجون، ونفوس عديدة خرجت من الهيكل التنظيمي للجماعة وانضمت إلى هوى الجهاد في الزنازين. وبالطبع لا تستطيع مصلحة السجون، ومن خلفها الأجهزة الأمنية، حل أي مسألة من ذلك، بل يكتفون فقط بالتجديد لهم من خلال القضاء، نظراً لخطورة خروجهم إلى الشارع مرة أخرى، وخلف كل تجديد تكفر نفوس جديدة بأفكار كل من هم خارج الأسوار.

وفي شوارعها، يكره المتطرف المصري أن يشعر بأنه يتلقى التمويل للدفاع عن الدين، فيعيش حياة أقل مما يرى أنه يستحق، ويكسر شوكة الحياة في نفسه، ويبرئ ذمته من جهله بمصدر التمويل. يمر بنفسه داخل أروقة الفقر أكثر حتى تطاوله الضغينة والاندفاع بشكل متجدد، فالفقر سجن أيضاً، يستطيع أن يجدد الكراهية.

وبمرور الوقت، ينخرط في التجربة، ويمر بتجارب ثقيلة على أي إنسان،  تمنحه الخفة، القتل، المطاردة. يعرف الطريق والكمائن. يعرف الخطر والخيانة، الثبات ولحظة الانسحاب. يتعرف على الوقت والانتباه والبصيرة، بشكل أكثر جدية. ومهما بلغ جهله، فإنه يبلغ نواحي أبعد في وعيه لا تمنعه عنها الكراهية، يفكر فيها ويصل إلى ما هو أبعد، فتتصل روحه مع انتباهه، ويفكر في كونه توصل إلى أشياء لم يكن ليلم بها سوى بتجربته الموحشة.

وهكذا يشعر بالاحتقار تجاه منظري التجارب، ومَن يعتقدهم جاهلين. فيثق بالتجربة أكثر ويؤمن بالتوحش كتجربة منفصلة، كمصدر لمعرفة الذات. تتمركز الحرب في أفضل مكان لها في نفسه منذ إيمانه الأول بها. وتتسع الحرب داخل نفسه لتصبح باباً أكبر من أبواب المعرفة، لا كفعل آت من الكراهية والانتقام وإثبات الوجود وحتمية التدخل والاحتفاظ بحق الرد فحسب. بل لأنه يشعر بحتمية مروره بتجارب أوسع تدر عليه المزيد، وفي خضم وصوله يبصق على وجه المجتمع التافه.

تلك أضيق المعارك التي تحيا نفسه فيها وتدور في فلكها، تبدأ بالكراهية وحتمية الانتقام، وتكفل له التجربة أن تنتهي بالمعرفة والخفة والبصيرة، حتى لو لم يستطع تسمية تلك الأشياء. لذلك، وهو في طريقه لتفجير إحدى الكنائس، يشعر بسلام الوصول أكثر من ترقب الانتقام، ويعلم في قرارة نفسه أن من أعطاهم من تجربته ومن يتبعونه، لن تجذب مسامعهم دعوات تجديدية للخطاب الديني. فهُم الدِّين، وليس الخارج المحيط بهم. ويعتبر كل ما يدور حول التجديد، محض محاولة بائسة تنتمي إلى صميم "المُحن" الذي يتصدر مشهد دولة تحارب الإرهاب في أحد أفلام عادل إمام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها