الجمعة 2014/05/23

آخر تحديث: 22:31 (بيروت)

أغنية الموت النيء

الجمعة 2014/05/23
أغنية الموت النيء
لعثمة حامد سنو تصنع أسلوبه، ولغته تشبه ليلى المفترضة
increase حجم الخط decrease
كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ بعد توطئة السلسلة، والحلقة الأولى عن  ديماندا غالاس، الحلقة الثانية عن فرقة الطاعون الأسود،  والثالثة عن نينا هاغن، والرابعة عن فرقة ميتال أوربان، والخامسة عن كلاوس نومي، هنا، الحلقة الأخيرة، التي قد لا تشبه الخاتمة، عن انتقال الصراخ من أغنية إلى أخرى مفترضة داخلها.

لا يمكن للصرخات أن تنتهي. هي أصوات نيئة، لم تطبخها نبرة الإنهاء، أو تطهوها لغة التحديد، كما أن غاية إطلاقها برّانية، أي أنها تحضر خارجها. لذا، يصعب إيقاف سلسلة الصراخ، الذي، في حال ثمة نهاية يصل إليها، فستكون  شبيهة ببداية فيلم "سكريم-2"، التي تُفتح على صالة سينما، يجلس فيها جمع من الناس، يتفرّجون على مشهد عنيف، كان قد تضمّنه "سكريم-1". 

خلاله، يلاحق القاتل المقنّع إحدى الهاربات منه، يصل إليها، تصرخ، وتخترق سكينه لحمها. عندها، وعلى إثر هذا العنف، يصرخ الحاضرون داخل الصالة، فتصوّر الكاميرا واحدة منهم بينما تطلق صيحات الذعر وتقاوم القتل المعروض بحجب عينيها، وبالاقتراب من المحاذي لها. لكن، المشهد سرعان ما ينتقل من الشاشة إلى واقعها، فتكتشف أنها تنزف من بطنها، فالشخص، الذي يرتدي قناعاً بجانبها، قد طعنها بسكينه أيضاً.
 
لم ينتهِ القتل في المشهد، انتقل إلى مكان آخر. الفعل نفسه، ينسحب على الصراخ، الذي ربط بين الشاشة والصالة، فكان بمثابة قناة لحمل الجريمة إلى الواقع، أو ربما لانكشافها فيه. لقد حضر في المعروض والمُعاش، مشقلباً إياهما، ورافعاً الغطاء عن الثاني في الأول، من دون أن يتوقف، أو ينقطع. فالصراخ يتحرّك على أساس الانتقال، وليس الانحسار، إذ يخلق على الدوام غاياته، أو بالأحرى مشاهدها، في الخارج، حيث تتكاثر، وتستدعي التفاعل معها.
 
على هذا الأساس، من الممكن النظر في العلاقة بين الصراخ والغناء. فحين يحضر الصوت النيء في الأغنية، لا يقتصر أثره داخلها على تصويب مضامينها المتعلّقة بشؤون السياسة أو الاجتماع، بل إنه قادر على حملها إلى أغنية أخرى. كما لو أن الأغنية الصراخية مأهولة بواحدة ثانية افتراضية وغير مرئية، ينزع الصراخ إلى الانتقال إليها والاستمرار فيها. ومن هذه الناحية، لا يكتفي الصراخ بالانفصال عن الأغنية، بحيث أنه يحاول فصل عناصرها، وترتيبها من جديد، أيضاً. ذلك، من أجل الكشف عن الأغنية الثانية، التي من المفترض أنها مأهولة بها، وبهدف دفعها إلى مواجهة الواقع، الذي يرغب الصراخ في إماطة اللثام عنه.
 
يحوّل الصراخ غير المرئي، في الواقع، إلى مرئي.. وغير المسموع، في الأغنية، إلى مسموع. هذا ما تبيّنه، على سبيل المثال، أغنية "العشاق الحزينون"، التي يستصرخ فيها ليو فيري إحدى النساء، طالباً منها أن تتفرّج على البحر، علّها بذلك تنتبه إلى المستتر بينهما. إلا أن الفنان سرعان ما يستبدل مطلب المشاهدة بواحد آخر، أي الصراخ، الذي قد يحثها، بحسبه، على إدراك حبه لها: "أصرخي، أصرخي، أصرخي/ أنت أنا/ الأنا هي أنتِ/ ما اسمك؟/ إسمك الليل في بطون الفتيات/ الفتيات التي تتدرّج على طرف الموت البطيء".  

ومع حلول الصراخ مكان النظر، ترتفع نبرة فيري، وتتزعزع الأغنية، ما يؤدي إلى إختفاء شخصيتها الأساس، أي المرأة، لتصير سؤالاً، لا يجيب المغنّي عنه: "أنت لست هنا، لأنك أنا/ وأنا في مكان آخر...مَن يبصر إذاً روح العشاق الحزينون/ مَن إذاً؟". بالتالي، يصحّ القول إن فيري يستخدم صراخه كي يكشف اللامرئي، أي اختفاء المرأة، وهو بذلك ينفي أغنيته، ويفصلها عن نفسها، كأن لحظة صراخه فيها هي لحظة موتها النيء الذي تستحيل، بسببه، غير موجودة.

Vingt-ans-apres-sa-mort-les-hommages-a-Leo-Ferre_article_popin-(2).jpg
  ليو فيري
 
وقد يكون الصراخ، في بعض الأوقات، واضحاً في تفتيشه عن أغنية غائبة، ومختلفة عن تلك، التي يحضر فيها. هذه هي الحال في إحدى أغنيات فرقة "سكريمرز" (انطلقت العام 1975 في كاليفورنيا الأميركية). خلالها، يركّز المغنّي توماتا دو بلانتي صراخه على "شيء ما" في داخله، يحوّله إلى كائن متوتر: "شيء ما تحت السطح/ عميق جداً/ يجعلني عصبياً". وعندما يصل الفنان إلى العبارة الأخيرة من الأغنية، يطلق صرخته، كأنه يخرج من النص، وقبلها، الموسيقى، بهدف الوقوع على سبب انفعاله. 
 
لكن، من جهة أخرى، يبدو الصراخ كأنه هو نفسه الأغنية المفترضة، إذ يمهّد لها دو بلانتي ببعض العبارات، ومن ثم يطلقها، كأنها غايته من الغناء. نتيجة هذه الأغنية الجديدة، يبدأ الفنان بالرقص غير المنتظم في شكل معيّن، قبل أن تتغير الموسيقى، ويبدأ بالركض الرقصي، محرّكاً فمه، كأنه يطلق صرخات صامتة. وعليه، انتقل دوبلانتي من الغناء، إلى الصراخ، قبل أن يصل إلى الخرس، ومن ثم الإسراع في حركة الجسم. فالأغنية، المبحوث عنها، وجدها في الصرخة، التي انتقلت بدورها إلى أغنية ثانية، هي الجسد. ولم يحصل هذا الانتقال سوى من خلال قناة الصراخ، التي جمعت كل تلك الأطراف، ولم تنقطع، حتى خلال الصمت.
 
لا تتوقف الصيحات عن التحوّل. تخرج من الحنجرة، تهزّ الجسد، وحين تدخل الأغنية، تخلخلها، وتذهب بها إلى أغنية أخرى. كما أنها تتفاعل مع النصّ، ولغته، حتى تغير مضمونه. وربما، تصح، في هذا المطاف، الإشارة إلى الأداء الصوتي في "مشروع ليلى". فنظراً إلى عدم اتقانه اللغة العربية، يؤدي مغنّي الفرقة، حامد سنو، أغنياته، أولاً، بلسان متلعثم، وثانياً، بصوت شبه صارخ.

في "على بابه" مثلاً، تسمح اللعثمة للصراخ أن يحضر في اللغة، لدرجة أن المستمع لا يعود قادراً على سماع الكلمات، التي تنضغط أو تنمحي تحت الصوت النيء. ذلك، أن لفظ العبارات، بطريقة غير مفهومة، يشقّ سبيلاً صراخياً في لغة المغنّي، الذي يعبره، صانعاً أسلوبه الخاص. الأخير يتألف من عنصرين على الأقل، اللفظ المشقوق، والنبرة المشدودة، بينهما تتهشّم اللغة، أو تستحيل مفترضة، مثل ليلى، التي لا نعرف عن حضورها سوى مشروعها الموسيقي.

لا تُختم السلسلة، ما زال الصراخ يفتش عن أغنية غائبة في واقع غير مرئي!
 
increase حجم الخط decrease