الأربعاء 2014/11/26

آخر تحديث: 15:46 (بيروت)

بلد "ذو وَجه" صباحي.. انتهى

الأربعاء 2014/11/26
بلد "ذو وَجه" صباحي.. انتهى
لطلما شكلت، بغنائها وتمثيلها "وجه" البلاد، الذي اتفق في ميثاقه الوطني على أنه "ذو وجه عربي".. مرة يتقلص، وحيناً يُكبت.
increase حجم الخط decrease
أول ما يتبادر إلى المرء عند سماع خبر رحيل الفنانة صباح، هو السؤال عن وجهها. ماذا حل به في لحظة موتها؟ فقد دأبت "الشحرورة" على الإعتناء به، كأنه المحرك الجمالي لكل قدّها، ملّسته، وليّنته وكوَته، ثم رتبته، ومدته، وأوثقته، وفي ما بعد، شدته. مزاحاً، انتشرت قصة نزوحه من مكانه، تدحرجه بين الأعضاء، واستقراره في مكان مغاير لمكانه الرأسي. "سبعت الكارات" قالت صباح في إحدى مقابلاتها، متحدثة عن زيجاتها المتعددة، و"تسبيع" الحِرف العاطفية، حباً وخيانة، استلزم منها أن "تُصَفِر" وجهها، أن تغيره صفراً بمقدوره، ببساطة، أن يحوي كل الأرقام، ولا يحويها بالفعل نفسه. إنه صراعها مع الزمن، الذي يمثله عمرها، إذ تزاحمه على الجسم، وتتركه محاصراً في ميدان معين، حيث باستطاعتها أن تكون "امبراطورة" عيشها.

المحدق في الصور الأخيرة لصباح، يلاحظ أنها دخلت في مرحلة ذوبان الجلد، الذي بدا، في أحد تقارير قناة "الجديد"، رقيقاً وسهل التقشير. كانت الصورة تجزم في اقتراب الفنانة من ذروة التنافس مع سنّها، وتؤكد أن الشخصية-الأسطورة تمضي ما تبقى لها من ألقٍ، قبل أن تنطفئ. ثمة حزن في كل ذلك، يحضر هذا الشعور وراء إشراق صباح، فهي تكلمت مرةً عن وحدتها، ومرات عن حزنها من جراء أمرين، وفاة أختها وحرب لبنان.

لطلما شكلت، بغنائها وتمثيلها "وجه" البلاد، الذي اتفق في ميثاقه الوطني، على أنه "ذو وجه عربي"، مرة، يتقلص، وحيناً، يُكبت. لا يعرف كيف يبرزه جيداً، ولا كيف يخفيه. على عكس نجمته، التي قررت، منذ بدايتها، أن تطلق العنان لوجهها، مخضعة إياه للعمليات الجراحية، كي ترسخه على حال من الريعان والإبتهاج، وليظل مطابقاً لوضعه في ستينات القرن المنصرم.

"لا، الحرب لم تقع"، كأنها تقول الصبوحة، و"أَلَقي من ألق البلاد، وجمالي من جمال سويسرا الشرق". إلا أن الألق يتحول أرقاً، والجمال ترهلاً في البروز، والحالان ينمّان عن الهجس بمنيّة مداهمة.

وقوع الحرب، وموت الأخت، وخسارة الأصدقاء، وخيانة العشاق... كل هذه الوقائع، تتلفقها صباح بوجهها، تنفيها به، وعندما تغني، تستمر في فعلها هذا، ليكون صوتها جزءاً من الوجه، الذي تلفظ كلماتها عبره. أغنية صباح المرئية، غير المسموعة، هو وجهها، الذي حاولت أن توازن بينه وبين الصوت، التعامل معه كأنه حنجرة ثانية، أو كأنه هو الحنجرة. لكنها، يوم قررت نفي شائعة موتها، أطلت بصوتها فقط، فكرمتها قناة "أم.تي.في" كمغنية، ككائن صوتي، ما عاد من الممكن أن يداري صورته البتة، رغم كل محاولاته، التي بذلها على طول عقود سابقة.

اختارت صوتها لتنفي خبر موتها قبل أن تموت، ولتحجب عنا، كمشاهدين، أرقها، ولتكفل لنا أن لبنان لا يزال موطناً جديراً بالبقاء في رحابه. لقد استعانت بسلاحها الأخير، بالصوت، يوم، عرفت أن وجهها نضب. صباح لا تموت دفعة واحدة بل تدريجياً. الوجه تميته الإشاعة، الصوت يتحلل إثر الخشونة، ثم تتوقف باقي أعضاء الجسم.

رحلت صباح في نومها. وصلت إلى تسوية مع الموت، عقدت اتفاقاً معه، يفيد مجيئه في حين نعاسها، وليس في لحظات أرقها. تنازلت عن وجهها لصالحه، فأعطاها فسحة من النوم اللانهائي. بذلك، خسر المهتمين بها دورهم كمشاهدين، وظلوا مستمعين فقط. يعيدون الإصغاء إلى أغانيها، وإذا شاهدوا أفلامها، يكترثون بصورتها من جهة صوتها، عارفين أن الحزن يلفهم، وأن الحرب كانت قد وقعت في البلاد.

مات صباح لبنان، غاب وجهه، وانهارت آخر قلعة لنفي وقوع الحرب. ربما ستحتل مباني الإقتتال اللبناني مكانها، برج المر مثلاً. لا أذكر، في هذا السياق، مَن هو المقاتل، الذي قال في إحدى مقابلاته، أنه حين يمر بالقرب من ذلك البرج، ومن المباني المدمرة، يُصاب بالنعاس، لكنه لا يتمكن من النوم، لأن الحرب اندلعت ظهراً. هكذا، مع موت وجه صباح، باعتباره مَعلَماً من معالم ما قبل الحرب، تبقى معالم الحرب فقط، ويتستحيل أرق وجهها قلقاً فوق وجوهنا، التي لا نوم لها، ولا أرق. إنها وجوه فقداننا للفقدان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها