الجمعة 2014/04/04

آخر تحديث: 01:19 (بيروت)

تصريخ لإفشاء المجهول بالغناء

الجمعة 2014/04/04
تصريخ لإفشاء المجهول بالغناء
لوحة جيريمي إنيكيو
increase حجم الخط decrease
فمها ملطّخ بالدماء. إصبعها مدسوس بين فكيّ جمجمة. وجهها مستنقع جاف. وعيناها ذاقتا المنية، ولم ينل الدود منهما. لا أثر للفظ على سحنتها، رغم الانتفاخ الضئيل في حنجرتها، ورغم أنها ليست صامتة. فهي تتستّر على صوت مسنون تحت جلدها، وخلف ثوبها. لا تفشي بسرّها، أو تبوح بما وقع لها، قبل أن تقف أمامنا بالمحنة والمشقّة. 
 
لكن، ماذا لو فتحت الفتاة  في لوحة جيريمي إنيكيو فاهها؟ ستدمّي نطقها على الأرجح، وتطلق صرخة  بالغة في حدّتها، حتى تعطب الوقت، الذي كان يسري حولها بفعل الكتمان. ذلك، وعلى معنى الاستصراخ في لسان العرب، كي تستغيث، أو تنعي ميتاً، هو في الغالب حالها، وحال الآخر، الذي تطبع قبلة حمراء على أسنانه، متحولة، بفعل صراخها، من زومبي إلى كائن على حدّ الحياة.
 
فعندما لا تُسعف اللغة أصحابها في التعبير عن الاستنجاد أو الإنعاء، الذين يرغبون في قولهما، يلجأون إلى الصراخ، بوصفه قوة صوتية، يقسّمها الباحث الموسيقي سيلفان ب. لابارتيت إلى نوعين، الأول حسّي، لا ينقل مدلولاً إلى سامعه. والثاني ندائي، يفيد التواصل مع الغير. علماً، أن هذا التقسيم لا يعني الانفصال بينهما، فكل صرخة، مهما كان ظرفها، تندفع من الحنجرة بغاية شعورية وسيمانطيقية. ويعينها على هذا الاندفاع الحلقي، وقبله الانضغاط في الرئتين، غياب اللغة، التي يُسند بها الصوت كي يصير كلاماً. فالصراخ ليس فعلاً لفظياً، ولهذا السبب، يرتبط بحال مُعاش، أو وضع واقعي، يستمدّ مدلوله الغزير منه، بلا أن تضبطه لغة أو تشوّهه. 
 
ومع تغيّره من قوة صوتية إلى عنصر غنائي، يستطيع الصراخ أن  يلعثم اللسان، ويفصله عن قاموسه المكتسب، متيحاً للصارخ/ المغنّي أن يكشف عن فاجعته، وما يلحقها من وجع واضطراب. فيفشي ألمه بدون كلمات أو تركيبات جُملية، معتمداً على لغة ما قبل لغوية، أو بالأحرى على الصوت الأصلي، الذي أطلقه قبل أن تشرع المعاني العاجزة في تدبيره. وهنا، من الممكن الإشارة إلى أن الصرخة لا ينتهي مدلولها بعد إطلاقها، كما تُصوَّر سينمائياً باستخدام مؤثر "فيلهلم سكريم"، الذي يبدّدها بالوقوع من علوّ شاهق. فما أن تندفع من الفم حتى تمثل "الصرخة الأولى"، التي يطلقها الطفل عند خروجه من الرحم، إضافة إلى أنها تستدعي أفعالاً أخرى نحو مطلقها، كالتفاجؤ بجلبته، ومن ثم إنقاذه، أو حتى الصراخ معه من جديد. 
 
بالتالي، تتعدّى الصرخة نفسها، لتصير، على قول آرثور جانوف، صوتاً لا واعياً، من ناحية استرجاع لحظة المغادرة الحضنية، وصوتاً منبِّهاً، من جهة حثّ سامعيها على التفاعل معها. من اللاوعي الذاتي إلى التنبيه الغيري، يخلق الصارخ عالماً قائماً برفع اللُثم عن التشقّقات والرضات التي خلفتها المكبوتات في جسمه، وضاعفتها اللغة. داخل هذا العالم، ينكأ جروحه كي لا تعود مخفية، فيشفى منها، أو على الأقل يخفّف من الألم، الذي تسبّبه له، مثلما يورط سامعه في هذا النكأ من خلال الإنعاء أو الاستغاثة. 
 
في هذا السياق، يحضر الغناء، المرافق للموسيقى، كأنه تسييس لهذا العالم الصوتي الغائر والمنخفض، بحيث أنه يمتن الصلة بين نبش المكبوت، وإيقاظ الغير، الذي قد لا يتفاعل مع الصارخ، خوفاً من الوقوع في الصرخة ومجهولها، أو لنقل  في الفم، الذي يكاد يبتلع الخارج بقوة حنجرته. تماماً، مثلما يظهر في لوحة إدفارك مونك الشهيرة، حيث أن الصارخ، يطلق صوته المذعور، واضعاً يديه على أذنيه، بينما يقف خلفه شخصان، لا يبدو أنهما يسمعان أي صخب، رغم المشهد الدموي الذي يحيط بهما. فيغيب تفاعلهما معه، لتحلّ مكانه مفارقة أخرى، متعلّقة بمصدر الصرخة الأول، إذ لا يمكن التأكد إن كان داخلياً، أم خارجياً، فالشخصية المحورية للوحة، تفتح فمها صارخة، وفي الوقت عينه، تحاول سدّ أذنيها، كأنها تتجنّب سماع صوتاً قوياً غير الذي أطلقته. 
 
بيد أن، وفي حال كان للغناء موقعاً في "الصرخة"، لكان غيَّر الحدث المرسوم، حاملاً صوت المذعور إلى الواقفين وراءه، الذين، بدورهم، يقدمون على حركة ما، تبدّد مفارقة اللوحة. فإذا كان الصوت خارجياً، يرفعون أيديهم فوق أذانهم كي لا يسمعوه، أما، إذا كان يصدر من حنجرة الشخصية المحورية، فيتقدّمون للتفاعل معها، والدخول إلى عالمها. عندها، لا يعودوا من سامعي الصرخة، بل من المستمعين إليها، بعد أن حملتها الأغنية، التي تصير مستوياتها ونبراتها الموسيقية مأهولة بالصراخ. في النتيجة، تتعرّى من قواعدها السابقة، التي كانت تعيق التعبير عن المكتوم والمؤلم، بالاستناد إلى سكون الصوت، واستنقاعه اللغوي. 
 
بعد ذلك، كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ هذا، ما تسعى سلسلة المقالات القادمة إلى معالجته، وذلك، بالإستناد إلى عدد من التجارب الغنائية المختلفة.
 
الحلقة المقبلة: ديامندا غالاس والإنفتاح على المجزرة.
increase حجم الخط decrease