الجمعة 2014/05/09

آخر تحديث: 00:29 (بيروت)

الميتال المديني: الثوري الجيد هو الثوري صفر

الجمعة 2014/05/09
الميتال المديني: الثوري الجيد هو الثوري صفر
لا أتكاثر، لا أنقسم، لا أنتمي إلى أحد
increase حجم الخط decrease
كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ بعد توطئة السلسلة، والحلقة الأولى عن  ديماندا غالاس، الحلقة الثانية عن فرقة الطاعون الأسود،  والثالثة عن نينا هاغن .. هنا حلقة جديدة عن فرقة ميتال أوربان.

 تستيقظ عند الصباح، فتغضب. تتفرّج على التلفاز، فتغضب. تتحدث مع والديك، فتغضب. تخرج من المنزل، تسير في الطريق، تصل إلى الجامعة، تدخل القاعة، تجلس أمام أستاذ المعرفة العاجزة، فتغضب. تنتقل إلى المقهى، حيث الجميع خائر، ولا يقول سوى المألوف، تغضب، لكنك، ومع ذلك، تخوض نقاشاً مع أصحابك، إلا أن الغضب سرعان ما يظهر من جديد. أين تذهب؟ كيف تطيح هذا المجتمع، الذي يعتقل "أفراداً"، يردّدون، طوال اليوم، أنهم أحرار؟ هل سيحين وقت إدراكهم أنهم لا يسكنون سوى الزيف، ولا يستهلكون إلا قمعهم، فيمارسونه بحق أجسادهم، وبحقك؟ هم، ينتجون سلطة كبتهم، وأنتَ، بفعلهم، يغتالك الضجر. أي سبيل تسلك كي تفرّ؟

إنه العام 1976 في باريس. مرّت حوالي ثماني سنوات على أيار 68. السلطات خدعت الثوار بالانتخاب، واستأنفت عملها. الشباب، الأكثر تمرداً بينهم، يتحول إلى هيبي. يفترش الأرض، يشرب الكحول، يتعاطى المخدرات، ويؤدي أغنية طويلة، ما أن تنتهي حتى يبدأ واحدة أخرى. "السلام والحب" بدلاً من "إحرقوا السوربون"،  الهيرويين بدلاً من حجارة الحواجز، والغابة بدلاً من الشارع. باختصار، "لا ثورة بعد الآن". من خلف هذا الواقع، وعليه، خرج ثلاثة من طلاب إحدى الثانويات في العاصمة الفرنسية، مقرّرين أن يصرخوا في وجه النظام، وفي وجوه المتقاعسين عن التصدّي له، أي الرفاق السابقين، الذين شاركوا في انتفاضة أيار، لكنهم أصيبوا باليأس، واستسلموا. 
 
اجتمع كلٌ من إيريك ديبري، وريكي دارلينغ، وزيب-زانك، حول غاية سياسية واحدة، راغبين في بلوغها عبر الموسيقى. الأول، لجأ إلى تركة أبيه الميت ليشتري آلة سانتيسيزور، الثاني ابتاع غيتاراً كهربائياً بأموال أمّه الراحلة، أما الثالث فبرع في صناعة الماكينات الموسيقية، التي درجت الفرقة على استخدامها في الحفلات. بدأوا بالعزف، استدعوا كلود بانيك ليغني نصوصهم، أصدروا بعض الأصوات الغليظة، عندها، قال دارلينغ أن موسيقاهم تشبه موسيقى الميتال، فردّ عليه ديبري، "صحيح، لكنه ميتال مديني". في النتيجة، أطلقوا على فرقتهم إسم "Metal Urbain"
 
لقد كانت هذه الفرقة أول عصبة بانك في فرنسا، إذ عرفته بوصفه موقفاً، وليس نوعاً موسيقياً، ذاك، بحسبما قال رأسها المدبر، أي إيريك ديبري، في إحدى مقابلاته. فالبانك يعني "أن تمسك حياتك بيدك، أن تفعل ما ترغب في فعله، وإذا لم تعجبك الموسيقى التي تستمع إليها في الراديو، إفعل ما ترغب في سماعه". إذاً، ثمة فعل بانكي، لا ينحصر في إنتاج الموسيقى، بل يتعداه إلى إمساك الحياة، ومواجهة مَن يعيق "امتصاص نخاعها"، على قول الشاعر هنري دايفيد ثورو. 
 
سياسة الهيبي الميت
لهذا السبب، أي ممارسة الفعل البانكي، قلبت الفرقة ألحانها إلى ضجة، وصوتها إلى صراخ، أما نصوصها، فقد انطوى الغالب منها على مانيفستو واسع، يتطرّق إلى أحوال البلاد، داعياً بجرأة إلى تحطيم القديم، وتخطّي كل قاعدة، تساهم في ولادة الفاشية على مستوى السياسة، وفي صعيد الاجتماع. بمعنى آخر، تحث "ميتال أوربان" مستمعيها على التحوّل إلى "الرقم صفر"، الذي يصرخ:"أنا وحيد وفريد/ لا نسخة عني ولا صورة طبق الأصل/ لا أتكاثر/ لا أنقسم/ لا أنتمي إلى أحد/ العالم لي/ غريب بين الجماهير/ تنبذني كل الطبقات/ متحضّر في الغابة، وبرّي في المدينة/ لا تحدثوني عن الحب، عن الاتّحاد، والمساواة".
 
يبتعد الصفر عن الانتماء السياسي يميناً أو يساراً، كما أنه لا يقف في الوسط أيضاً. لا مكان له، ورغم ذلك، يحضر في جميع الأمكنة، "لا عمل، لا عائلة، لا حزب، لا وطن". إذ يدرك أنه عالق في المزوّر، الذي تمتن أكثر بعد العام 1968، نتيجة فقدان الشجاعة على التمرّد الشارعي مرة جديدة. والحال، أن "ميتال أوربان"، تبدو في الكثير من أغنياتها كأنها تنتقد النظام من جهة "بديله" الرسمي، مثل الهيبيين، أو الموسيقيين، الذين يشهرون "ثوريتهم".

فالبنسبة إلى الحركة الهيبية، كانت الفرقة قد رفعت، في بدايتها، شعار "الهيبي الجيد هو الهيبي الميت"، ذلك أن البانك، وبحسب ديبري، ظهر لإطاحة الهيبيين، الذين يهربون من الواقع بكلام مثالي عن الحب، ورفض الحرب، والابتعاد عن الصراعات. بالإضافة إلى أنهم يلجأون إلى المخدرات، التي تروّج لها السلطات، كي لا يحتك الشباب بالكارثة، فيكتفون بغض الإدراك عنها لساعات يومياً. 
 
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن أعضاء "Metal Urbain" تداركوا تعاطي المخدرات، بهدف الانتباه الحادّ خلال محاربة النظام مباشرةً، وبالبعيد من أي وسيلة أخرى غير الموسيقى وصرخاتها العنيفة. أما، عن الموسيقيين "الثوريين"، يقول ديبري، فأغلبهم في الوقت الحالي، يصنعه السوق وإعلامه، فلم تعد موسيقى الروك سياسة، بل مجرّد منظر، مسلّ وممتع، لكنه، سيء وغير حقيقي البتة.
 
2513-photo_Metal_Urbain-(1).jpg
فرقة "ميتال أوربان" بعد انطلاقتها الجديدة
 
لا تعتمد الفرقة الوعظ السياسي في أغنياتها، لكنها تعبّر عن اختلافها بأسئلة عن العيش، الذي تجتاحه أنماط الاستهلاك والتسليع، وصور الدعة المغشوشة. تغني عن زجاجة الكوكا كولا، منتقدة تسويقها الإعلامي على أنها "المرأة الفالوس" أو "عضو تناسلي صناعي"، أو "دمية فانتازمية"، يبتاعها المستهلك كأنه وجد "فردوسه". ولهذا الأخير، المنضبط بقواعد النظام، تغني الفرقة، معلنة ً له: "بمقدور كل شيء أن يعود كالسابق/ تأخذ العطلات تحت أشعة الشمس/ وتعود إلى العمل يوم الإثنين/ خاصة أنك لا تبدّل المحطة التلفزيونية/ الواقع في صالونك/ ومستقبلك اختفى". 
 
ومن ناحية أخرى، تدعو المستمع إلى تحرير رغباته، وخلق متعته ثورياً، "إكتشف جسمك الجنسي/ تستمتع فتنوجد/ اخرج إلى الشارع/ اقتل قلبك/ افتح ثوبك". وفي السياق، تميز "ميتال أوربان" بين "الحرية المقيّدة"، التي بها تخدع السلطات محكوميها، والحرية غير الزائفة. ذاك أنه، لتحقيق الثانية، لا بدّ من الحضور هستيرياً  في الشارع، أو في ما يوازيه فنياً، أي  الصراخ: "عائلة، تلفزيون، لا مجال للهرب/ جرّب الشارع، لا منفذ آخر". 
 
لافتة الحنق
على ذلك، من الممكن القول إن الصراخ هو الشارع الصوتي، الذي تمارس "ميتال أوربان" سياستها في أرجائه، بحيث أن صوت المغني، كلود بانيك في البداية، ومن ثم ديبري نفسه، يخرج من الحنجرة خشناً. وهو، حين ترافقه الموسيقى الصاخبة، تضاعف من حدّته، مثلما يحدث عادة في أغاني البانك. 
 
لكن، اللافت في أداء الفرقة هو موقع النصّ في الأغنية، إذ  أن الكلمات لا تختفي وراء اللحن، بل تظلّ مسموعة، وقد يكون مردّ وضوحها، الجزئي على الأقل، أنها تشبه اللافتات، التي تُرفع في المظاهرات، كي تجذب العين نحوها. تالياً، النصّ هو جزء من الممارسة السياسية للفرقة، التي لا تكتفي بالنزول إلى الصراخ-الشارع، بل ترفع عباراتها-لافتاتها فيه. كأن الأغنية لا تُسمع بالأذن فحسب، بل تُشاهَد بالعضو نفسه أيضاً. 
 
في كل الأحوال، لم تكن الفرقة بعيدة من الفن البصري، لا سيما ديبيري، الذي كان، بوصفه ناشطاً، على احتكاك مع طلاب كلية الفنون الجميلة في أيار 68، كما أنه يعمل اليوم فناناً فوتوغرافياً. لذا، غالباً ما يتناسب الصراخ مع النص العنيف في أغنيات "ميتال أوربان"، التي تسير في خطوط ثلاثة، أي الموسيقى، والصوت، والكلمات، بالطريقة ذاتها، فلا يتغلب عنصر على آخر، حتى تنتهي الأغنية بعبارة واحدة، بمثابة مفتاح، يغلق الإشكالية السياسية على حلٍ راديكالي، أو يفتحها على اتهام. وفي هذا المطاف، تستوي العلاقة بين الصراخ والنصّ على أساس العنف المتبادل. ففي حال كان الصوت غير قاسٍ، تقسّيه الكلمات، وتحمله مضموناً نافذاً، كأن تحتل مكانه، أو تؤدي دوره. والعكس أيضاً صحيح. 
 
إلى ذلك، تُضاف ملاحظة أخيرة، أن الأغنية، بكل عناصرها، تتحوّل، في أغلب الأوقات، إلى صرخة كاملة، لكنها ليست دائماً صوتية، فمرّة موسيقية تنتجها الآلات، ومرّات نصّية تصدرها الكلمات. ثمة عصب واحد، يضم عناصر الأغنية، الواحد إلى الآخر، هو السياسة، التي يصنّفها ديبيري بأنها أنارشية و"politique incorrecte"، فتبدو الفرقة أنها تغني كل المواضيع بالأسلوب ذاته، وبغاية واحدة، أي قلبها رأساً على عقب، أو بالأحرى إلغائها من أصلها. 
 
"ميتال أوربان" فرقة غاضبة، أحياناً تسقط في الشمولية، وأحياناً تنتبه إلى الجزئي، وتستخلص سياستها منه. نتيجة ذلك، همّشها الإعلام الفرنسي في ثمانينات القرن الماضي، فلم تُعرف سوى في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك، قبل أن تتوقف لفترة طويلة، وتعاود نشاطها من جديد. ذاك، بلا أن تتراجع عن نظرتها السياسية، أو عن مقاومتها سلطات الحرب، على اختلاف أشكالها: "هنا الحرب\ اجتماع دائم\ هنا الحرب\ صور مقذوفة\ هنا الحرب\ إعلام مستعبد\ هنا الحرب\ قتل شافٍ".
 
ديسكوغرافيا
عانت "ميتال أوربان" الكثير في إصدار ألبوماتها، نظراً لتمويلها الخاص، وابتعاد الاستديوات عن التعامل معها. غير أنها قدرت، بعد فترة طويلة من العروض، على تسجيل ألبومها الأول، بعنوان "الموتى خطيرون" (1981)، بالإضافة إلى "الأنارشية في باريس" (2009)، و"سأتغوّط في قيئك" (2006)، و"العاهر المحتضر" (2008)، كما جمعت أغنياتها الفردية في "أنطولوجيا 77-79" (2008) أيضاً.
 
increase حجم الخط decrease