السبت 2015/03/14

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

"ليالي المدن": يوم بتنا نحرس الليل في القاهرة

السبت 2015/03/14
"ليالي المدن": يوم بتنا نحرس الليل في القاهرة
"يجثم الليلُ على القاهرةْ/ ويزحف الكونُ على خاطري"
increase حجم الخط decrease

كان الصيف في أشده، عندما تفاخر سائق الميكروباص بهواء البحر، مزية الإسكندرية على القاهرة! لم أجد فعليًا غير مجاراته، فبم أرد عليه إذا عارضته؟ ما هو التوصيف الحقيقي لهواء نيل القاهرة في الليل؟ وأنت في موقف مماثل، من شرفة ميكروباص إلى شرفة ميكروباص، لن تستطيع أن تقول له غير ما قلت؛ في ليل القاهرة، وعلى كورنيش النيل، الهواء دب ثقيل الوزن عديم الحركة! والحياة أيضًا بمثل ثقل ذلك الهواء؛ في ليل القاهرة!

ما هو الليل في القاهرة؟ وكيف يمكن لابن مدينة أن يصف الليل في مدينته؟ لابن المدينة مزية على من غيره، سيقول هو في مدينتي صاخب؟ أهذه ميزة حقًا..  هل أترك السكندري يغلبني وأنا ابن القاهرة، تذكرت شتاءً سابقًا من الإسكندرية، منتصف الليل والشارع يغط في نوم عميق؛ جميع الدكاكين والمحال والمطاعم مغلقة.. "يا رجل لا مكان لشراء علبة سجائر في ليل الإسكندرية الذي تتفاخر بهوائه!". قلت له ذلك وظننت أني قد غلبته وقتها! لكن ما هو حقًا الليل في القاهرة؟

سؤال ألقاه إليَّ الموقف، وتركني من دون أن يُجيب، إن شئتم الدقة، تركني من دون أن أشغل نفسي بالبحث عن إجابة، فالليل مجردًا هو رحلة الخروج من الفضاء الواسع إلى الأرض المأهولة، فلتنظرَ –مثلًا- إلى ليل السماء تجد بعض النجمات منثورة في تنافر وآخرى مجتمعة؛ الليل هو هذه الرحلة التي تقضيها النجمات بين ألفة الوحدة وسَمر الجماعة، ونحن في القاهرة –أو هكذا أظن- نسرق الليل من اليوم –كل يوم- بالصخب، فداء نهار نبتغي حلوله سريعًا، أو نهار لا نريده أن يأتي من الأساس، فكيف سنجد الإجابة في حين لا يشغلنا السؤال؟

لكني عرفت الليل عشية يوم الثاني من فبراير 2011، ليلة خطاب الرئيس المخلوع حسني مبارك، ميدان التحرير صاخب ساهر، بعد خطاب عاطفي كاذب استطاع بالفعل زعزعة بعضهم ممن انطلت عليهم نطاعة مبارك، لم أصدق الخطاب، لكنني قررت وقتها أن أعود إلى المنزل، كنت أشعر رغم زيف الحديث، أنني قد حققت نصرًا ما، ولابد أن أحتفل، وحدي، بعيدًا عن ذلك الصخب في ميدان التحرير، سأعود إلى منزلي في حلوان. كانت المرة الأولى منذ اندلاع أحداث 28 يناير، التي أخرج فيها من محيط الميدان إلى الكورنيش؛ قابلت السكوت لا الصمت، النيل هادئ أسود بانعكاس الليل، والهواء الثقيل، الذي كان، صار يتحرك كلحن من منتصف السلم الموسيقى "صول –لا – سي" ثم يعود للمنتصف ثانية "صول- لا-سي"، كان يمكنني التخيل –بسهولة- أن الفنان محمود مرسي هو ذلك الهواء لكنه يرقص منتشيًا فرحا. لا يشبه هذا الجو ليل الشتاء الذي عرفته في الإسكندرية، في تلك الليلة عرفت أننا بتنا نحرس الليل لا نسرقه!

ذلك المساء هو ما وصفه شاعر القاهرة، إبراهيم ناجي، بقوله :"يجثم الليلُ على القاهرةْ/ويزحف الكونُ على خاطري/كأنه في مقلة الساهر/سَدٌّ من الرُّعبِ بلا آخرِ/يعبُّ عَبُّ الأبدِ الزاخرِ".

***

المدينة الصاخبة، ساكتة الآن، والنيل وسع شرنقة الدودة رحب كشطي الكون، يمكن للراقص الحجل بطول الكورنيش، ولكن السكون؟! من يشاهد الراقص ويثني على رقصه أو يشاركه إياه، ابن المدينة –للأسف- دائم الانشغال بمتابعة الآخرين له، وليل ابن مدينة مثل ساكنيها يقف ينتظر الآخرين ليتباهى أمامهم، وكابن المدينة الذي يسير مختالا بين الجمع ينتظر الثناء، فيما لا يأبه أحد به، يفعل الليل، إلا أنه الآن بات يقف أمامي وأقف أمامه وجهًا لوجه، ويمكنه أن يستعرض كما يشاء!

وأنا إذ قررت السير عشرات الكيلومترات من ميدان عبد المنعم رياض إلى حدائق حلوان، لست أبلها أو مغامرًا، بل لم تكن هناك جنس وسيلة نقل. وصلت حتى سور مجرى العيون، كانت هناك لجنة شعبية من أبناء المنطقة، لا عربة تمر وعشرات الخلائق يقفون لتأمين الطريق، يشعلون الحطب، بين أيديهم يمسكون الشوم/ السكاكين/ الحديد/الفراغ، خبروا أنني أبحث عما يوصلني، قالوا انتظر لعلنا نوقف أحد السيارات فتصطحبك، لم يمر أمامنا إلا الوقت، حتى ظهرت من بعيد مركبة، عربة ضخمة لعلها كانت من ماركة "جيب" أو أخرى فارهة، وعندما اقتربت تنير الشارع، أشار قائد اللجنة لها فلم تقف أو تهدئ من سرعتها، بل استمرت كما هي على انطلاقها، حتى كادت تدهسنا، وقبل أن تعبرنا ناول القائد كشافها الخلفي بشومته فهشمه؛ لم يهشمه لأنها كادت تدهسنا، أو لأنه شعر أن وراء اندفاعها غموضًا وريبة، بل كسر الكشاف لأن سائقها رآني أشير لها ولم يقف ليقلني! أو هكذا قال لي.

ثم جاءت النجدة، سائق يقود دراجة نارية، قالوا له: خذه معك، فصحبني خلفه، سرنا ما يقرب من 4 كيلومترات، حتى بادرني بالقول: "العالم واقف"، ولا مواصلات، أريد أن أقضي مصلحة في المعادي (منتصف الطريق تقريبًا مابين وسط البلد وحلوان) فاضطررت لإيجار هذه الدراجة، أجرتها بـ50 جنيه.. فأجبته: الله معك، يمكنني أن أساهم في ذلك الإيجار إذا أردت. فأردف دون تردد: أوصلك حتى حدائق حلوان وتعطيني 50 جنيها، قلت له لا بل 25 نتحمل الأجرة بالنصف.. سكتَ حتى إذا وصلنا حي دار السلام (يبعد عن المعادي قدر محطتين) فقال: ثلاثون وأوصلك للحدائق! لا أدري لماذا خفت من مراوغته، فطلبت أن ينزلني في المعادي وتحت ثبات موقفي رضي أن يأخد 15 جنيهًا فقط!

لم يكن غير السير من بد حتى يجود الليل بحل آخر أو أصل وجهتي، ومن المعادي حتى طرة، أنهكني الطريق، فقررت الانتظار قرب نقطة الشرطة العسكرية، وهناك استطعت بفضل النقيب الكهل الذي يرأس الدورية أن أصعد سيارة "فيات" لم يظهر سائقها ورفيقه للعسكري أي تردد في اصطحابي، ولكن بعد أن فارقنا الكمين،  طلب مني قائد السيارة إظهار بطاقة تحقيق الشخصية وإلا أنزلني حالًا إلى الشارع، سألته لم؟ فأجاب: لا أعرفك والطريق لبش، أرني بطاقتك أولًا، أظهرت بطاقتي والتي تؤكد أني من سكان حدائق حلوان بالفعل، ولكنه لم يكتف بل سألني عشرات الأسئلة، لماذا كنت في التحرير؟ ولماذا قررت مغادرته بهذه الطريقة؟ وأين أسكن بالضبط في الحدائق؟ وهل أعرف فلان من سكان المنطقة؟... وغيرها من الأسئلة، وبعد أن اطمئن إلى صدقي، كنا قد وصلنا فعلا إلى الحدائق، فشكرته ونزلت أحمد الله على عودتي إلى البيت.

***

هذا هو ليل القاهرة، في الصيغة التي رأى أن يتبدى لي فيها، بكل صدقه، رجل مجدع غشيم ومحتال ومتشكك خائف، أما الصباح فيها، فلك أن تتخيلني وقد صحوت والإرهاق متكلسًا فوق عظامي على التلفاز يذيع ما جرى من فاجعة معركة الجمل؛ صباح القاهرة مرهق وصادم، لكنه يحمل من القوة ما يستطيع تبديد أركان دكتاتورية فاسدة، ويحمل في طياته بداية جديدة، وإن كانت ستسلمك في النهاية إلى ليل مراوغ جديد!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها