الأربعاء 2015/04/22

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

الأبنودي شاعر الفقراء وراويهم

الأربعاء 2015/04/22
الأبنودي شاعر الفقراء وراويهم
تكتمل قصيدة الأبنودي حين تسمعها بصوته
increase حجم الخط decrease
تكتمل قصيدة عبد الرحمن الأبنودي حين تسمعها بصوته. أتيح لي ذلك مرّة في القاهرة. في جلسة ضمّت قليلين سأله الراحل الطيّب صالح، أن يُسمع الأصدقاء قصيدة العمّة يامنة. ربما كانت آخر ما كتبه آنذاك، كما تصوّرتُ، فقد كان ما يزال في طور احتفاله بها. ليس الصوت وحده هو ما يجعل إلقاءه آسراً، ولا اللهجة الصعيدية التي تَجاوز المعرفة الكاملة بها إلى إعادة إبداعها، بل الشعر نفسه. مع الأبنودي الشعر العاميّ ليس صوراً مستعادة واحتفالاً بسذاجة القول والعواطف الأولى، إنه شعر راهن حتى إن أجراه، في تلك القصيدة، على لسان العمّة يامنة. كان الأبنودي يُجري قصيدتها، أو كلامها، على لسانه. إنها قصيدتها هي. هي التي تعاتبه على غيابه عنها وتسأله إن كان ذلك بسبب النسوان، كما تسائله، معاتبة أيضا، عن اكتفائه بخِلفة البنات، وتقول له بأنها شاهدته على التلفزيون، وأن جاراً لها أراها صورته في "الجُرنان"(الجورنال -الجريدة).

هي قصيدة صغيرة لم تتجاوز مدّة إلقائها الدقائق القليلة، لكنها مع ذلك بدت أشبه بقطعة من حياة حقيقية قالت فيها العمّة يامنة أشياء عن مصاعب عيشها وانتظارها الموت بعدما سبقها إليه جيران ذكرتهم واحداً واحداً، بأسمائهم. هكذا يكتب عبد الرحمن الأبنودي قصائده، أن يكون ذلك شعراً وأن يكون حقيقياً في الوقت نفسه. في قصيدته "رسائل حراجي القط"، وهي في حجم كتاب (كان يلقيها كاملة مستغرقاً في ذلك ما ينوف عن الساعتين، وفي قصيدته المذكورة أعلاه تسأله العمّة يامنة إن كان ما يزال يقرأ للناس رسائل حراجي القط)، ينتقل بالشعر العامي الصعيدي إلى أبعد بكثير من الغنائية. تلك الرسائل هي رواية كاملة، بالمعنى البنائي، لكن أيضاً بنقلها أزمة عيش حراجي القط، الذي ترك عائلته وبيته في جبلاية الفار، وذهب ليعمل مع الأنفار في بناء السدّ العالي.

هي رواية بالمعنى البنائي إذن، تذكّر بالشكل الذي كتبت فيه رواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" أو رواية "آلام فرتر" ليوهان غوتّه. إنها محض كلام احتوته "الجوابات" التي كان يرسلها "حراجي القط" من أسوان إلى زوجته فاطمة أحمد عبد الغفار في جبلاية الفار، وردّها عليه في جوابات ترسلها هي إليه. لا مقدّمات لتبادل الرسائل هذا، ولا إضافات أو إيضاحات تفصل بينها. فقط الرسائل، التي تبدأ على شاكلة تلك التي يتبادلها أهل القرى المهاجرون مع زوجاتهم: "إلى زوجتي الجوهرة المصونة والدرّة المكنونة".

في الرسائل المتبادلة الأولى سلامات وأشواق وذكر لأخبار الولد والبنت، وكبرهما شهراً بعد شهر. في الرسائل أيضاً وصف للشغل في السدّ العالي يذكّر برواية "نجمة أغسطس" لصنع الله ابراهيم، وفيها أيضا كلام عن الخبراء الروس وعن بلادهم التي يغمرها الثلج حتى لا تعود البيوت ترى. وعن الفرق بين الأنفار (الذين يأتي بهم الوكيل ليقبض جعالته عن كلّ "رأس" منهم) والموظّفين، وعن الذين يكدّون في الشغل وعن الخواجات. القصيدة الطويلة تصف كلّ شيء، متنقّلة في ذلك بين الإعجاب حيناً والإدانة حيناً آخر، لكن ما يتحوّل فيها نحو ما يشبه الذهاب إلى المأساة، هو علاقة "حراجي القط" بزوجته فاطمة. لقد أعجبه العيش الجديد، وبات بعد تلك السنوات الستّ التي قضاها هناك، أسير حياته المختلفة، وها هو يرسل لزوجته أنه لن يعود أبداً، فلتتدبر أمرها هي والولدين.


ما أضافته الشعرية الصعيدية على روائية الكتاب هو ذلك الحزن الذي يأخذ بقارئها إلى حدّ البكاء وإسالة الدمع. ذلك الحزن، الشفيف حيناً والعميق حيناً، هو ما يميّز كتابات عبد الرحمن الأبنودي. حتى في كتابه "أحمد سماعين" الذي في سعة جزءين كاملين نقرأ عن أزمة الرجل الفلاح، الفعلية وليس الفولكلورية، النفسية الفردية وليس الإجتماعية فقط، ولا يغادرنا ذلك الحزن أبداً. "أحمد سماعين" رواية أخرى، بالشعر العامي، أو بالكلام العامي الذي يطلع منه الشعر هكذا من تلقائه، بحسب وصف الناقد وعالم الجمال جورج طومسون لبعض أنواع الكلام.

عبد الرحمن الأبنودي ليس شاعر الأغنيات فقط، تلك التي كلامها كان الأجمل بين ما كُتب، ابتداء من أول الستينات، كما أنه ليس فقط شاعر قصيدته عن جمال عبد الناصر، هذه التي أذيعت في أقنية وإذاعات كثيرة بعد موته. هو، فوق ذلك شاعر الأعمال الكبيرة التي روت الأزمات الفردية للفقراء بلغتهم هم. إنه صانع حكايات ما بعد السير الهلالية (التي عمل على جمعها في خمسة أجزاء)، وما بعد الحكايات الشعبية التي منها حكاية أدهم الشرقاوي مثلاً. إنه شاعر الفقراء والفلاحين وروائيّهم. لولاه ربما لكانوا قد أُبقوا هناك، في حكاياتهم القديمة، ولاستمرت الحياة من دونهم.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها