الإثنين 2024/01/15

آخر تحديث: 12:10 (بيروت)

في نبوّة مديحة كامل وخطيئتها

الإثنين 2024/01/15
increase حجم الخط decrease
كنت بدأت الاهتمام بالأدب، عندما أحضرت أمي إلى البيت كتابًا من زميلة لها في العمل، عن قصة تحكيها ابنة فنانة اعتزلت التمثيل. كانت الفتاة التي ظهرت بلا ملامح في رداء أبيض على الغلاف، أو ربما كانت الصورة إشارة إلى الأم. تتحدّث بين الصفحات عن امرأتين، واحدة ساقها الشيطان إلى الفن وعيشته الحرام وفلوسه الفاسدة، وأخرى قادها الهدى إلى صلح مع عائلة كانت تبرأت منها وطفلة أهملتها، وحال ميسورة لا تستطيع الأموال الفواحش، مهما تراكمت، إدراك بركته. قالت أمي إن تلك الفنانة، التي لم تأت الست صاحبة الحكاية على ذِكر اسمها، هي مديحة كامل، وأنها حملت الكتاب إليَّ من الشغل حتى تزيدَ حصيلتي من المعرفة.

ربما استعان، الذي ألّف تلك الحكاية، للمفارقة، برصيد القصص الأخلاقية لأفلام الأبيض والأسود، عن مآل امرأة تركت عائلتها سعيًا وراء المال السريع والشهرة الزائفة. لكن لماذا قررت أمي وزميلاتها في المكتب أن تلك الفنانة، التي انتهت حياتها، حسب ذلك الكتيب، على سجادة الصلاة، هي مديحة كامل دون غيرها من صف طويل لفنانات اعتزلن الفن وارتدين الحجاب؟

ربما لأنها كانت الأشهر بين المعتزلات اللواتي فارقن الحياة في تلك الفترة. أو وربما، وتلك مفارقة أخرى، استعنّ في تأويل الحكاية الخرافية، بما اخترنه من أعمال شاركت فيها وشخصيات أدتها، فجاءت مقاطعة الأسرة مثلًا من فيلم "الكداب"، وجاءت الفلوس الحرام من مسلسل "البشاير"، لكنها لم تهمل ابنتها لا في فيلم ولا في الحقيقة، غير أن الأمثولة التي تبتغي تلك القصة ضربها عن حياة الفنانين، تقتضي هجران طفلة بالمرّة.

حلّت الذكرى الـ27 لرحيل الفنانة الفاتنة مديحة كامل، التي لا يتبقى من تاريخها الفني المؤثر (بعضه) في أذهان القطاعات العريضة من المصريين سوى لحظة وفاتها، بين آذاني الفجر والظهر، على وضوء، لتقابل وجه كريم، في اليوم الرابع من رمضان الموافق 13 يناير 1997. وفي يوم مثل ذلك، أقصد ما يذكر بالوفاة والميلاد، يحلو لأبي وغيره كثر من المحافظين النصح، بقراءة سير الأبرار، بدلًا من شراء حلوى المولد أو صنع العاشوراء أو التضرع رفقة الدراويش في "السيدة" (مسجد السيدة زينب).

لا أقول إن مديحة كامل من الأبرار لأنها ماتت تحافظ على صلاتها، ولا أقول هي كذلك لأن الفنانين أصحاب رسالة -الأخيرة أساس الأزمة، قياس ما هو تقدمي بما هو أخلاقي حتى يستسيغه "الشعب المتدين بطبعه". ولا أقول ذلك أيضًا لأساوي بين الفنان والنبي، فالمناوشات الشكلية مع الرجعية كمنهج يقوده بعض المحسوبين على التنوير، أزمة أخرى، لكني أقول ذلك لأنه من الجيد حقًا مراجعة منجز الشخص وتأثيره في ذكرى وفاته أو ميلاده.

وربما أبدأ من الاعتزال وأتوقف عنده، مثل سائر المشاهدين، رغم أنها المرحلة الأخيرة، في حياة قصيرة لم تطُل أكثر من 51 سنة، قضت أكثر من نصفها تعمل بالفن، وشاركت في أكثر من 140 عملًا بين السينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة، حسبما يؤكد كتاب يتتبع سيرتها ويحمل اسمها أنجزه الصحافي المصري محمد سرساوي(*).

كانت مديحة واحدة من ملايين الـ"متدينين بطبعهم". صحيح أن ذلك وصف ساخر يحلو للأنتلجنسيا المصرية استخدامه للسخرية من ممارسة المواطنين -فرادى أو جماعات- أي سلوك ينافي الأخلاق العامة، ويتعارض بالضرورة مع ما تفترضه الأديان من أداء، لكن الحقيقة التي تهرب الليبرالية المصرية من الإقرار بها، هي أن الشعب الذي يتحدثون عنه ويتباكون على ردته الثقافية، لم يبارح ربط كل شؤون حياته بالإرادة الإلهية، مثلما كان يفعل قبل حلول الفرنسيين على شواطئهم، ولم يدرك الحداثة بعد، رغم كل ما خاضه. فلا الحملة الفرنسية أو تحديث محمد علي أو الثورة على دولته ثم الثورة على الدولة التي أطاحت دولته، منحته ذلك. فطالما لم تُنتزع الحياة الدنيا من هيمنة الآخرة، وطالما لم يتحرر الضمير الفردي من الطاعة الذاتية، وطالما ما زال الفرد ممنوعًا من التعبير عن معتقداته وأفكاره حرًا، فنحن لم ندرك الحداثة، التي للسخرية بدأت شذراتها الأولى في القرن الخامس عشر!

لذلك لم تنتظر مديحة كامل العائدين من الخليج العربي، محملين بـ"ثقافته الصحراوية"، لتفكر في الاعتزال.

الكلام مختزل وقاصر في وصف تلك الفترة من التاريخ المصري التي واكبت اعتزال مديحة وظهور السلفية والحركات الإرهابية. لكننا نستطيع القول إن المجتمع قادر –دائمًا- على استيعاب أي دعوة تصل بينه وبين "هيمنة الآخرة"، ولا يقود حركات التمرد في الطرق المغايرة سوى الأفراد.



ولا يكشف تتبع الحوارات الصحافية لمديحة، غير إنها ابنة تلك الروح الجمعية. فهي، وإن امتلكت موهبة حقيقية بانت في أدوار قليلة خلال فترة نضجها الفني، لم تمتلك مشروعًا، أيًا كان شكله، أو وعيًا بما تريد تقديمه، وكانت تسير يحركها شغف تلك الموهبة وحدها التي ما فتئت تريد الإعلان عن نفسها.

كانت مديحة في زمنها تلقب بـ"كأس الشمبانيا الفائر"، ربما لأنها بدأت حياتها تؤدي أدوارًا وصفت مبالغة في الإغراء، لكن ابنة الإسكندرية تشبه السمكة المياس، الجميلة بين مخلوقات البحر المتوسط، في جسدها الريان وملاحتها التي تجعلها أقرب لكل مشاهد على حدة، قُرب جارته الجميلة التي أنفق صباه يحلم بأن تضمه إليها، أو أنفق شبابه يخطط للزواج منها، وفي كهولته كفاه أن تبادله البسمة بأخرى وكوب الشاي بمسامرة لطيفة. كان جمالها مريحاً، أو حسب قولها "إن جمالي يريحني ويحررني من الهواجس. يجعلني على مسافة قريبة جدًا من قلوب الناس، أقرب مما تتصور. أنا أشعر بأني ولدت بين الأيدي الخشنة، بين الوجوه التي تبدو وكأنها منجم الحزن". غير أنها في مواجهة "الاتهامط بأنها ممثلة إغراء، كانت تقول "إن إصرار المخرجين على إسناد هذه الأدوار لي يعتبر ميزة غير متوافرة في غيري من الممثلات، إنها موهبة، فلماذا لا أستغلها؟ ولا أعتقد أنه توجد ممثلة إغراء بعد هند رستم، وبالنسبة لي هي مثلي الأعلى، لكني لست خليفتها، إذ لا يمكن للإنسان أن يضع على جسمه جِلد غيره، ولا يهم أن يكون عظيمًا مثله، لكن يجب أن تكون له شخصية وأسلوب يختلف عنه".

وفي حوار لاحق، طُرح عليها سؤال: قيل إنك قررت الابتعاد عن أدوار الإغراء، فهل هذا صحيح؟ فأجابت: "فعلًا. وكل أدواري المقبلة ستكون بعيدة كل البعد من الإغراء، سأمثل شخصيات ميلودرامية وشخصيات جديدة جدًا عليّ (...) الإغراء أدوراه محدودة، والسينما الآن تتجه لمعالجة مشكلات الحياة ومشكلات الشباب، ومجتمعنا بطبيعته لا يميل إلى الابتذال والإغراء. كما أن موضة "السكس" العنيفة التي اجتاحت الأفلام انتهت. وعمومًا أدوار الإغراء عمرها قصير ولا تعيش في أذهان الناس". ثم توضح أن السبب في قبولها مثل تلك الأدوار في بداية حياتها الفنية يعود إلى أن "الفنان في سبيل انتشاره، وبناء قاعدة جماهيرية له، يضطر أن يقبل أدوارًا كثيرة، ولا يكون له دخل في اختيار أي منها، وعندما يعرف أن له الحق في اختيار أي منها، يدرك أنه صار نجمًا، وعندئذ يكون له الحق في اختيار اللون الذي يناسبه ويحس به"!

ولعل الدور الذي منحها تلك النجومية، أو أول بطولة مطلقة حقيقية، جاء صدفة، وكان يحتاج فقط لفنانة لا تملك رصيداً مجتمعياً تخشى ضياعه. ففيلم "الصعود إلى الهاوية"، الذي رفضته قبلها سعاد حسني وميرفت أمين، لم ترفضاه كما أشيع لأنه دور جاسوسة، وإلا لرفض نور الشريف ومحمود عبد العزيز دوريهما في "بئر الخيانة" أو "إعدام ميت"، أو لرفض جميل راتب نفسه دور ضابط المخابرات الإسرائيلي في الفيلم. لكن لأن الجاسوسة "عبلة كامل"، في النص السينمائي، كانت مزدوجة الميول الجنسية، وهناك مشهدان واضحان لمثليتها، كما أنها كانت تستخدم جسدها للحصول على المعلومات الحربية، وهو ما لم يقله صراحة صانعو الفيلم أو المعتذرات عن المشاركة فيه. كما ان الفيلم الذي صدر العام 1978، لم تستغله مديحة كامل لصناعة تاريخ مغاير لمشوارها، عما كان قبله، وظهرت أعمالها بعده بين صعود وهبوط حتى اعتزلت في العام 1992 وهي تصور فيلم "بوابة إبليس" المتواضع على مستوى النص والإخراج.

كانت مديحة كامل مهيأة لخطوة الاعتزال، تقريبًا منذ وفاة عمر خورشيد، التي كانت شاهدة عليها: "منذ تلك الليلة وحتى اليوم فقدتُ الطمأنينة والاستقرار، وبات الخوف نديمًا ورفيقًا يلازمني لحظة بلحظة. وتأكد بداخلي أنه بقدر نجاحي، يزداد خوفي ويتراكم بداخلي قلق أكبر، كل إنسان يحقق نجاحًا غالبًا، ولا أريد أن أصل إلى مرحلة النجاح المبهر، ولذلك قررت الاعتزال لأني أخشى الموت".

وإن كانت لفظة الموت هنا، لا تشير، بحسن النية أو سوئها، إلى الموت الطبيعي، خصوصاً أنها كانت إحدى اثنتين نجتا من واقعة تصنف اغتيالًا، وما زالت أصابع الاتهام توجه فيها إلى النظام المصري، فإنها تركت الشاشة وارتدت الحجاب بعد تلك الحادثة بـ11 سنة، صنعت خلالها أفلامًا غير قليلة. وقرأت أيضًا، كما تشير حوارتها، إنتاج مصطفى محمود الذي يُذكي الخرافة الشعبية و"هيمنة الآخرة" باسم العِلم، وأيدت أن الفنانة تدفع الرشى لتصل للبطولة، بينما رفضت احتمالية أن تتلقى الفنانة نفسها الرشى لتلبس الحجاب.

ربما كانت مديحة كامل فنانة موهبة، لكنها لم تملك وعيًا يماثلها، فلا هي نبيلة عبيد بما قدمت من منجز كبير عددًا وقيمة، أو نادية الجندي بحضورها الشعبي، ولم تمتلك في الوقت نفسه وعي ماجدة الخطيب، أو ذكاء ميرفت أمين في اختيارها أدوارًا تشفع لضآلة موهبتها الفنية.

ربما كانت مديحة كامل شديدة الموهبة مثل كثير من المصريين "المتدينين بطبعهم"، ولذلك السبب وحده لم يصمد منجزها الفني أمام نهاية أسطورية، كأن تموت على وضوء بين صلاتين في شهر مقدس، على عكس شادية وسهير البابلي، اللتين يصعب أن يختصر الموت أو الحجاب أو الاعتزال مشواريهما، ولذلك السبب ربما تخشى الدولة المصرية الاحتفاء بها، أو السعي لتكريمها ولو لمرة واحدة كفنانة على مدار 27 سنة.

سمكة المياس لم تمت نبية، ولم تعش فقيرة الموهبة، وتركت رغم كل شيء ما يوجب الاحتفاء بها. ونحن فرادى، وحتى نصير مجموعات، واجب علينا أن ندفع بما تركت، كله أو بعضه، إلى الواجهة ليزيح المقدس الزائف، إلى ما هو معقد وغير مفهوم أو بسيط وواضح، قيم وتافه؛ إلى ما هو إنساني. وما فعلتْ غير ذلك.

(*) صدر كتاب "مديحة كامل.. سنوات الظهور والاختفاء"، عن دار الرواق بالقاهرة، طبعة أولى يناير 2022، ويتضمن جميع الاقتباسات الواردة من حوارات صحافية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها