الأحد 2023/12/31

آخر تحديث: 08:40 (بيروت)

عبدالرحمن مقلد لـ"المدن":الشاعر في قلب المعركة مقاتلًا أو يصمت

الأحد 2023/12/31
عبدالرحمن مقلد لـ"المدن":الشاعر في قلب المعركة مقاتلًا أو يصمت
اخترت في كل أعمالي أن يكون للقصيدة صوت، أن تتكلم
increase حجم الخط decrease
في ديوانه الأحدث "رأى وتكلم"*، يعود الشاعر المصري، عبد الرحمن مقلد، إلى حادثة قتل الحسين، ربما لأن كل شاب قتيل هو الحسين نفسه. وفي حرب غزة الدائرة من قرابة الثلاثة أشهر لم يكن للشعر العربي حضور على قدر الحدث. هل يجب أن يكون للشاعر صوت في الحوادث الكبرى؟

من التعسف أن نقيس ديوانًا كتب قبل الحرب، ونشر بالتزامن معها، وفق مجرياتها. لكن الشعر غاب عنه السياسي في صالح مواضيع أخرى، خشية الاتهام بالغنائية، ولا يعبأ مقلد بذلك الاتهام، يصف نفسه بالمغني، ليس لأنه لا يزال يكتب نص التفعيلة، وإنما لأن الغناء ثمين في زمن يملؤه الانكسارات.

اختار الشاعر المصري الشاب لديوانه ثلاث قصائد طويلة عن الحسين وزينب والحكيم المصري القديم هرمس، ورغم العودة لمعين التاريخ، فإن كتابه الخامس لا ينفصل عما خطه منذ عمله الأول "نشيد للحفاظ على البطء"؛ الاشتباك مع الراهن المعرفي والوجداني والسياسي. وهذا ما نسعى للاشتباك معه عبر الحوار التالي.


اخترت أن تهدي ديوانك لمن وصفتهم "حراس مصر"، وللمفارقة فإنهم جميعًا يمثلون ما رسخ في المتن الرئيسي سواء الأدبي أو المعرفي أو السياسي. كلهم نال الاعتراف حيًا وميتًا. ألا يسعى الشاعر لإنصاف الذين قُتلوا في حياتهم وما بعدها؟

أتفقُ معك تمامًا في أن أحد أدوار الشاعر إنصاف من سقطوا من المتن إلى الهامش، ولكن ليس هذا فقط دوره. وأحب أن أوضح أني مع هذا الاستحضار لحراس مصر. لم أقصد أبدًا أن تنحصر الرؤية في المحلية أو الوطنية بمعناها الضيق، ولكي استحضرت مصر هنا كأيقونة للحضارة البشرية وهي كما قلت في طور الانحلال. استحضرتها كصورة للسماء كما يصورها الحكيم هرمس في نبوءاته المفجعة للتاريخ للبشري. فهو يتعامل مع مصر التي هي أحد مهود الحضارة، مصر التي ألهمت البشر الروحانية، وكأنها الكون بكامله، ما يصيب مصر يصيب العالم.

الإنسان في أسفار التكوين المصرية كان هو معمر الأرض، وباني حضارتها. ومصر حارسة الروح ومعنى الحياة والحب والتسامح والأخوة. وحين يحدث في العالم هذا الانهيار القيمي. لا بد أن نلجأ للمتون الأولى. يعود الإنسان ليفهم معدنه، يعود لمتون هرمس، يعود للحضارات الأصيلة. ليفهم أنّ منطق العداء ومنطق القتل والظلم السائد باطل، وأن الإنسانية تحتاج للنقاء الأول بعدما اختنقت في عادم لا يحتمل وقوده الدم والدماء.


- هل يمكن مد صلة بين من أهديت الديوان إليهم وبين شخوصه الرئيسة الثلاث: الحسين والسيدة زينب، وهرمس، ألا يزال الحسين وزينب، بوجه خاص، صالحين للإلهام، أو بلفظ أدق "غير مستهلكين أدبيًا".
 لا أجدني خجلًا في أي مرة من المرات، حين يوجه لي استفسار بخصوص أي من نصوصي، أن أقدم توضيحًا؛ لا أرى أن المعنى في بطن الشاعر، المعنى جلي في قصيدته، جلي وواضح والرهان في قبوله على الفن وشرطه أن يقدمه بشكل جديد. في هذه المرة لم يحضر الحسين كما حضر في أغلب النصوص التي انحسرت في استلهام مأساة كربلاء ورمزيته المؤلمة. إنما حضر فقدُ رأس الحسين في رحلته إلى مصر. أحببت أن أقدّم هذه المسيرة الغامضة وغير المعروفة. وأن أروي على طريقة الرواة الشعبيين تلك الرحلة التي امتدت بجسد الحسين من المدينة إلى مكة إلى العراق، ثم رأسه الذي حسب إحدى الروايات نُقل إلى الشام إلى فلسطين في عسقلان الذي دفن فيها لسنوات طوال، حتى جاء الصليبيون إلى المشرق وارتأى الفاطميون في مصر أن يحمل هذا الرأس إلى مصر ليكون محروسًا. كم كان في هذه المسيرة الطويلة من الشقاء والبكاء والظلم. ومصر حاضرة مرحبة برأس أبي عبد الله وهو يدخلها محمولًا إلى صدر الأفضل ابن أمير الجيوش الوزير الفاطمي بدر الدين الجبالي، ليدفن فيها وتتشكل مروية تاريخية عظيمة عن حكومة باطنية تحكم مصر. هذه الحكومة يترأسها ذلك الشاب القتيل الذي لم يحضر لمصر إلا رأسه. وتمتد الرحلة إلى ما هو أبعد، بعد أن يتغول الزمان ويجيء طور جديد لا تصبح مصر فيه قادرة على حماية ذلك الوجود. لتبدأ مسيرة جديدة تنتهي إلى البحر إلى الأفق إلى الكون حاملة وحامية تلك الروح الهاربة والملاحقة، فالحسين سفينة النجاة كما يروى في المأثورات الدينية.

أما عن السيدة زينب فلم ألحظ وجودًا لها في الشعر العربي الحديث، خصوصًا وأني أؤمن بدور الأم في إحياء البشرية الميتة مرة أخرى. استحضار الأمومة فيه محاكمة كبيرة إلى ما وصلنا إليه. ألا ترى أن الإنسان الآن في حاجة للعودة إلى أمه، لتعيد تأديبه وتعاتبه وتستحضر الأخضر فيه. ومن نلجأ له في أقسى اللحظات إلا حضن الأم.

في مصر نختصر بلدنا بأنها "أمنا"، بل إن البشر بصورة أو بأخرى يصفون مصر بأنها "أم الدنيا"، تأمل في "أم الدنيا" أم الكون السيدة العظيمة الباكية والساهرة على عون أبنائها... وكأن على مصر أن تقوم بذلك الدور. استحضرت في هذا النص كل أم عانت من أجل أبنائها من أجل أن تصلح حال الدنيا. استحضرت أمنا إيزيس التي قتل زوجها أوزريس على يد إله الشر الذي يحكم العالم الآن ست، لتكون على تلك الأم الكليمة أن تربّي ابنها حورس وتحميه حتى يشب وينال حكم مصر ويبدأ في نشر العدل. لذا استحضرت الأمهات المؤسسات جميعًا، أحضرت أم موسى التي ألقت ابنها في اليم وأحضرت العذراء التي تجسّدت بصورة واضحة في حرب غزة في صورة الأم التي تبكي ابنها القتيل.. وأحضرت جدتي التي مات زوجها وهي شابة فنبذت الدنيا ولبست السواد واشتد عودها وجاهدت وقاست من أجل أن تربي أبناءها حتى ماتت وهي مطمئنة. وكلهم الآن في حاجة ماسة لاستحضار روحها.

كنت أسمع جدتي وهي تبكي في صلاة الفجر وتدعو لأبنائها وبناتها كل باسمه وكل حفيد وحفيدة باسمه.. وتبكي تضرعاً لله بأني يحميهم وأن يرزقهم وأن يحنن قلوبهم على بعضهم البعض.. كأن هناك أشياء كانت تخشاها الجدة.

أما هرمس مثلت الحكمة، فكان حضوره في هذا الحيز حضورًا حتميًا. في قصيدة "نهضة مصر" (عودة هرمس في صورة الخضر) يعود الحكيم المصري هرمس مثلث الحكمة الذي يتجسد في هيئة تحوت، إله الحكمة والمعرفة، الذي احتفظت بحكمته المتون التي عثر عليها فيما بعد، والتي يبدأها بنبوءات مفجعة عن واقع صعب سيسود فيه الدم والعنف ولن تبقى إلا الحسرات. فكان لا بد من حضور العقل بعد أن غاب عن الإنسان، وتحكم غرائز الشر والقتل والإيثار والاستحواذ والإيذاء.. الحكمة هي التي يعود يها هرمس.. وهي المعرفة التي ينتقل بها الخضر عليه السلام عبر الزمن.


- يبدو أنك لا تخجل من توضيح القصيدة بعد كتابتها فقط. ففي الديوان أيضًا صدرت كل قصيدة منه بفاصل معلوماتي يوضح كل إشارة معرفية ضمتها. هل يمثل الشعر كل هذه الحمولة الفلسفية والمعلوماتية. أعتقدُ أن كل الذين وضعوا في قصائدهم أسئلة فلسفية أو حملوها بقيم معرفية، فإنها جاءت على حساب الشعر. أدونيس ومحمود قرني مثلًا.

 أختلف معك اختلافًا كبيرًا. لا أرى أن الحمولات المعرفية أو الفلسفية جاءت على حساب الشعر سواء في المتن الأدونيسي أو في شعر قرني. بالعكس كان الشعر هو المنطق الأساس في كلا النصين. ولكن الفارق أن هذه ليست كتبًا في الفلسفة أو المعرفة والتاريخ هي دواوين شعر، تنطق بلغة الشعر وتروج على طريقته في الاستشراف والتماس مع المعرفة والفلسفة.  والشعر دائماً كان حمالًا للمعرفة، وليس مجرّد أصوات جوفاء.


 - تتجاوز كل قصيدة على حدة الخمسين صفحة، وقد أنفقت في جانب منها أجزاء كثيرة لوصف المشاهد أو لحركة الجموع داخل المتن الرئيس للحكاية، وفي حين أنك تلتزم التفعيلة التي تُعد في رأي البعض "سياجًا" يحد المعنى في صالح الحفاظ على الإيقاع، ألم تخش أن يأخذ السرد من نصيب الشعر في ديوانك.


 عادة النصوص الطويلة أن تحكمها الدراما. لذا حاولت المزج بين السرد والغناء. حذيت حذو الحداة والرواة في طريقة مزاوجتهم الماهرة بين الحكاية والإطراب. استحضرتُ حالة الأسى التي تسري في النص (كما وصفها صديق لي) ليصل النص على متلقيه فلا يمل من طوله.

لا أكذب عليك وأنا أقول إن جسدي كان ينتفض وأنا أكتب نص "السفينة... رحلة رأس الحسين"، حاولت أن أنقل تلك الشحنات "الكهربية" عبر وسيط هو اللغة. حرصت على لغة قريبة من لغة المدائح والتوسلات. لغة بها نبض موسيقي ولكنها ليست موسيقى عالية. وفي قصيدة "عودة هرمس" ارتأيت أن أقترب باللغة العربية من لغة المدونات والمتون المصرية القديمة... الرهان الأساسي هنا أن يأتي كل هذا بمنطق الشعر لا بمنطق السرد.


- في وصف موكب رأس الحسين والدم النازف منها يصحب الركب إلى مثواه الأخير في القاهرة، تناص مع مشهد شبيه من "مائة عام من العزلة" حين خاض دم "خوسيه أركاديو" الطريق من ساحة بيته حيث قتل إلى مطبخ أمه لينبأها بخبر موته.
خط الدم مسار رحلة الحسين بن علي. ولا تزال قطرات من دمه، كما يروى في الروايات، لم تجف وهي تنبع قرب مشهد رأسه في القاهرة، وهي شاهدة على المأساة وحية. دم الحسين حي، يذكرنا لا بثأره ولكن بأن الحقيقة جديرة بالاتباع ولا تقبل المهادنة ولا الخذلان. الحسين رمز هائل حضر في كل مياديننا سواء في الثورات التي أجهضت بالباطل أو في جبهات المقاومة. كل دم عربي شاب هو نابع من دم الحسين.. حتى يستوي الحق.


في "عواء مصحح اللغة" و"بوينج سي 17 ليست شجرة"، جعلت من القضايا الراهنة مواضيع لقصائدك الموزونة إيقاعيًا، ثم عدت في الديوان الأخير إلى الماضي موضوعًا وإيقاعًا. هل ذلك وصف صحيح، بمعنى آخر هل الوزن أداة ركود/ماض والنثر أداة نماء/تطور؟

 ملعونة هذه المقولات السابقة على الشعر.. الهابطة من السماء.. اليقينية التي يتحدث بها البعض عن شكل واحد من أشكال الشعر كأن يقول إن قصيدة النثر تمثل الحداثة وقصيدة الوزن متخلفة عن الركب. هذا الكلام فارغ.. الشاعر حرّ في اختيار شكله الذي يرى فيه نصه.. أنا أعاني صدقًا في حصري ضمن شعراء التفعيلة. تجاوزت هذه الورطة... الكثيرون يحتارون في ما أكتب البعض لا يرى فيها وزنا ويقرأني كأني أكتب قصيدة نثر.. والبعض يظلم نصي لأنه يقرأه في إطار تاريخ قصيدة التفعيلة المعروف. على قارئ الشعر الحديث ألا يتورّط في هذا الهراء.


 - على ذكر "المقولات الجاهزة"؛ قلت في أحاديث سابقة ما معناه أن الاتجاه الفني المنشغل بالهامش واليومي حد من قدرة الشعر. وربما يتفق مع هذه الرؤية شعراء آخرون، بل حملوا ذلك الاتجاه ما يجرى في غزة وغيرها من الدول العربية، لأنه دجن الشعر والشاعر على السواء وأبعده عن السياسي في صالح "الإنساني". هل تتفق مع ذلك.


 أتفق تمامًا. أرى أن كثيرًا من الشعر دُجن وفقد قدرته على المواجهة. وإلا دلني على قصيدة واحدة كانت على قدر ما يحدث في غزة الآن من مذابح ومحارق ومن مقاومة خالدة وغير مسبوقة لعدوان غاشم.

عانينا في وجهة نظري كثيرًا من تكرار مقولات مثل الانحياز للهامش ضد المتن، الانحياز للقضايا الهامشية ضد القضايا الكبرى أو الكونية، وكأن هناك نمطًا ما في الكتابة أُريد تسييده؛ أن على الشاعر أن يكون محصورًا في آخر الطاولة، وليس عليه أن يتحدّث بصوت جهوري واضح، عليه أن يولول قليلًا بصوت غير مسموع، وإن سمعه عليه ألا يفهمه. لذا اخترت في كل أعمالي أن يكون للقصيدة صوت، أن تتكلم؛ أن ترى وتتكلم بوضوح وثقة لا تكون خرساء بلهاء بلا موقف. بالطبع الهياج الأجوف ليس مطلوبًا أبدًا بل مرفوض. والجمال هو الرهان الأساس لدينا، لكني ضد كل ما يقال عن احتقار القضايا الأساسية والهروب من المواجهة. المتن فسد وأتت عليه الفواجع وأصابه العطن، ولا بد أن نصلح ما نقدر ولو بالكلمة. وأرى في هذه الحالة أن اللجوء للهامش والاحتماء به جبن واضح.

على الشاعر أن يطلق صرخته المكتومة ونبوءته في واقع ينهار من حولنا وحصار يضيق. الكون كله في خطر. ترى ما يحدث في العالم.. الإنسانية في نقطة سوداء.. والحضارة البشرية جثة في طور الانحلال.. والبلاد إلى الزوال.. الجغرافيا تتغير... المعنى يسقط.. والموت من حولنا والحرب مشتعلة.. هل على الشاعر أن يلجأ للهامش مع كل هذا.

يجب على الشاعر أن يكون في قلب المعركة مقاتلًا أولًا... وإن لم تكن قصيدته على هذا القدر فليصمت.. وهذا بصدق موقفي من حرب غزة الأخيرة فلقد فضلت أن أصمت وأشجّع المقاتلين ولو بقلبي على أن أقول كلاما هشا لا يناسب القسوة والصلادة التي يعانيها المقاتلون في ساحة المواجهة.. لا أرى أن لدي القدرة الآن على كتابة قصيدة تمثل المقاومين وأعمالهم العظيمة.. ولا بقادر أيضاً على تمثل مأساة الضحايا ومعاناة أهالينا.


(*) صدر الديوان عن دار المحرر في القاهرة. وهو الخامس بعد دواوين: نشيد للحفاظ على البطء، ومساكين يعملون في البحر، وعواء مصحح اللغة، وبوينج سي 17 ليست شجرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها