الخميس 2023/12/14

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

"نابليون" ريدلي سكوت....بين السينما والتاريخ وابتداع ما لم يحدث

الخميس 2023/12/14
"نابليون" ريدلي سكوت....بين السينما والتاريخ وابتداع ما لم يحدث
ثمة مشهد غاية في الجمال يعالجه سكوت في معركة أوسترليتز 1805.
increase حجم الخط decrease
كيف يمكن النظر إلى الماضي؟ هو ذا عصب التأريخ كعلم في السردية التاريخية. والذي دفع بمؤسسي المنظور الفرنسي للتأريخ، أمثال مارك بلوخ ولوسيان لوفيفر وبروديل، إلى صك أكثر الأدوات البحثية رهافة، لكشف الحدث في مجريات الأمور، وتنظيم سرديته في السياق الدقيق والمعلل لظهوره كحدثٍ تاريخي. فكل حدث خارج سياقه هو مجرد مكعب زمني فارغ.

وعندما يتعلق الأمر بتقديم سردية ما، حول شخصية هائلة وفارقة في تاريخ أوروبا مثل نابليون بونابرت (1821/1769)، يفترض أن تكون محاطاً بخيرة المستشارين التاريخيين، ليس فقط للتدقيق في كيفية تناول التاريخ والتحقق من سياق الأحداث والتطورات التي حملتها وأحدثتها. بل، وقبل كل شيء، لمعرفة كيف يمكن تناول الشخصية الشاسعة لنابليون، الذي كتب عنه حتى اليوم أكثر من 10 آلاف كتاب. وقال فيه هيغل بأنه: "روح العالم ممتطياً صهوة جواده". ودفع موته باللورد بايرون إلى القول بأنه "بعد وفاته، سنصبح عبيداً للأغبياء". ناهيك عن وجود سلسلة طويلة من الأفلام التي تناولت بحذاقة، جانب واحد من شخصية نابليون، ولم تغامر لإنتاج فيلم عن مجمل حياة نابليون، مثلما فعل المخرج البريطاني ريدلي سكوت (85 عاماً).

علماً أن مخرج بحجم ستانلي كوبريك كان يحلم بتقديم نسخته السينمائية أيضاً عن نابليون، إلا أنه عدل عن الفكرة، لاحتمالات تتعلق بكيفية النظر إلى نابليون. هو الذي ـ كوبريك ـ ظل يتأمل براعة المخرج الفرنسي Abel Gance صاحب التحفة السينمائية الصامتة عن نابليون العام 1927، الذي اشتغل على كل مشهد كفيلم كامل، لتظهر الكتلة البصرية لكل مشهد كرحلة ضوئية في التاريخ.



ريدلي سكوت خبير في إخراج الملاحم التاريخية. وتمتاز أعماله بلغة سينمائية تفصيلية، سواء عبر التنسيق بين السرد ومتسويات حركة الكاميرا ودقة موضعتها في المشهد، أو في اختياره لدرجة الضوء المتوافقة مع مناخ المعارك والطقس والأزياء والعمارة. وقد أضاف في فيلمه المخصص لحياة نابليون، تقليداً بصرياً ـ أستسيغه شخصياًـ مرتبطاً بطريقة بناء المشهد كلوحة، بما معناه تحويل التموضع البصري للعناصر في المشهد إلى حركة إضافية لتحولات الكاميرا. وذلك بدراسته للبُنى المشهدية والتوثيقية في اللوحات التشكيلية التي رافقت صعود نابليون السلطة ووصله إلى لقب الإمبراطور غير الخاضع لسلطة العرش البابوية. في مقدمتها لوحات فنانه المفضل جاك دافيد لويس وقرينه الفنان الشاب أنغر. طبعا كان المخرج الروسي سيرج إزنشتاين أيضا يقوم بدراسة لوحات القرن السادس عشر وكذلك بعض اللوحات الحديثة، لتطوير بُنية المشهد في أعماله.

كلف هذه الفيلم ميزانية تجاوزت الـ200 مليون دولار، مكّنت مخرجه من إعداد نسختين منه: واحدة تلفزيونية بمدة زمنية قاربت الـ4 ساعات، وأخرى سينمائية مختصرة إلى ساعتين و38 دقيقة. والنسخة السينمائية هي مادة هذا المقال. والتي تظهر فيها أيضاً رغبة ريدلي سكوت في الموافقة بين شمولية القصة التاريخية وتكثيفها السينمائي، الأمر الذي قد أوقعه في أخطاء مجانية بلا معنى، أمام شخصية توفر مادة درامية معقدة ومتداخلة المستويات، ويمكن استخلاص قيم سياسية قابلة للتفاعل مع الواقع السياسي الراهن. هي سمات غفل عنها سكوت على حساب فكرة العاشق. لتضيع بذلك المستويات الثقافية التي مثلها نابليون، منها المشرع القانوني على المستوى الأوروبي، لكن أيضاً على مستوى المستعمرات الفرنسية التي خضعت لإعادة تشريع الاستعباد من قبل نابليون العام 1802، بعدما ألغى البرلمان الثوري الفرنسي العبودية العام 1794. وهي تفاصيل لم يتطرق لها ريدلي سكوت أبداً. كما غابت عن الفيلم الخصلة الأهم في نابليون، وهي الاستراتيجي العسكري وعلاقته بأهم وزير خارجية في التاريخ الفرنسي، تاليران الأعرج، الذي كان شاهداً على تحولات نظام الحكم في فرنسا بين الملكي والجمهوري، لكنه يظهر هنا كممثل ثانوي اقرب إلى الكومبارس. مع غياب شبه غريب لأهم ماريشالات جيش نابليون، أي "دافو".



لماذا هذه التفاصيل؟ لأن الفيلم يحمل هوية توثيق تاريخي، وليس مجرد عرض ساخر، كما فعل وودي آلن في فيلمه الكوميدي (الحب والموت 1975) حيث يظهر  نابليون بصورة مضحكة. لذلك، ستكون المقاربة النقدية لهذا الفيلم مختلفة.

بدا الإرباك على ريدلي سكوت منذ التمهيد الإعلاني للفيلم، حيث ظهرت ملصقاته الإعلانية بأربعة عناوين مختلفة. ضمنها العاشق Amant الذي أجد بأنه العنوان الأفضل لهذا الفيلم، نظراً للمساحة الكبيرة لزوجة نابليون الأولى، جوزفين، في الفيلم، وتنظيم المشاهد لإظهار نابليون عاشقا مأخوذاً بتوترات علاقته معها. علماً أن مراسلات نابليون جميعها محفوظة في الأرشيف الوطني الفرنسي، ولا تحمل لغة المراسلات ذاك الهيام الذي يفترضه الفيلم، بل كان نابليون في مراسلاته المتأخرة يخاطب جوزفين باسم "صديقتي المقربة". أما العناوين الأخرى فكانت الإمبراطور Empereur والإستراتيجي Stratége. قبل أن يستقر عنوان الفيلم على اسم نابليون فقط. غير أن اسم نابليون ليس مجرد اسم، فهو أيضاً صفة وتعريف.

ثمة تفصيل آخر يجب التنويه إليه، يتعلق بالمعادلة العمرية للشخصيات في الفيلم. ولدت جوزفين العام 1763، وبالتالي كانت أكبر بـ6 سنوات من نابليون الذي ولد العام 1769. في حين أن الفيلم يعرض العكس. ناهيك عن عدم تغيير ملامح نابليون منذ بداية الفيلم وحتى نهايته. وقد قام الممثل "يواكيم فينيكس" الخمسيني بتمثيل شخصية نابليون. فصنفته جريدة "لوفيغارو" في المرتبة الـ 28 ضمن لائحة الممثلين الـ109 الذين قدموا نابليون سينمائياً. وشخصياً، أمنحه مرتبة أدنى من ذلك، لأنه لم يدرس بما يكفي شخصية نابليون حتى يتقمصها سلوكياً. بل قدم أداءً درامياً تقليدياً، إن غيرت الديكور حوله لوجدته يتصرّف وينفعل كأي رجل آخر في أفلام الخيانة الزوجية الهوليوودية. كما لم تكن لدى نابليون بحة في صوته.

يبدأ الفيلم بمشهد غير دقيق تاريخياً، أي لحظة إعدام ماري أنطوانيت العام 1793. حينها كان عمر نابليون 25 عاماً. بينما يظهر الممثل يواكيم بنفس ملامح نابليون في منفاه حيث توفي العام 1821 في جزيرة سانت هيلينا. ناهيك عدم حضور نابليون لحظة إعدام ماري أنطوانيت في باريس، كونه كان في مدينة تولون جنوبي فرنسا، لدراسة التحصينات البريطانية تمهيداً لتحرير المدينة منهم.

تبدأ أولى أخطاء سكوت التاريخية في الفيديو الترويجي bande annonce للفيلم. حيث يظهر نابليون مراقباً قصف قواته للأهرامات بالمدفعية خلال حملته على مصر الخاضعة للحكم المملوكي العام 1798. وهو الأمر الذي لم يحدث تاريخياً، فالمدى الأقصى لمدفعية الجيش الفرنسي حينذاك كان 800 متر فقط، والمعركة جرت أحداثها بعيدة كيلومترات عديدة عن أهرامات الجيزة. غير أن نابليون سمّى تلك المعركة باسم الأهرامات لأسباب تعود بالدرجة الأولى إلى رؤيته لنفسه في مرآة الحضارة الفرعونية. لذلك رسم جان ليون جيروم لوحة نابليون في مواجهة تمثال أبي الهول العام 1868 وعرضت في باريس بعنوان مجازي "أوديب". وقد ظهرت هذه اللوحة بمعادل سينمائي أبدع ريدلي سكوت في تكوينه البصري،  بوضعه للكاميرا في الزاوية ذاتها التي نظر عبرها جيروم إلى مشهد اللقاء بين أبي الهول ونابليون، مرفقاً بحركة الغبار والمناخ اللوني المحسوس للدخول في زمن المشهد التاريخي. 

سياق الأحداث وتكوينها البصري 
توفر السينما هامشاً درامياً لإدخال تعديلات جمالية على الأحداث من دون تحريفها، وبما لا يخل بدور السياق في تمفصل الحدث دلالياً داخل سردية الفيلم. تشكل هذه النقطة مرتع النقد لنسخة ريدلي سكوت السينمائية عن نابليون. مثلاً، في المشهد المدخلي للفيلم، نرى إعدام ماري انطوانيت بالمقصلة العام 1793. هذه الأميرة النمسوية المراهقة، وزوجة الملك المراهق لويس السادس عشر، نجدها محاطة بالحشود الغاضبة للثوار الفرنسيين خلال المرحلة التي سميت بالإرهاب الثوري. ثمة شيء في ثياب الأميرة يكشف تاريخاً لم ينتبه له سكوت. بداية لم تكن أنطوانيت ترتدي ثياباً فاخرة كما في الفيلم. لماذا؟ لأنها حاولت مع زوجها الملك التنكر في ثياب الفقراء للهرب من الثوار، لكن لسذاجتهما استقلا العربة الملكية، فكشف الثوار أمرهما واعتقلا ليتم إعدامهما بالثياب نفسها. كما أنها تظهر في الفيلم بشعر طويل، علماً أن جميع اللذين كانوا يقدمون للمقصلة، وضمنهم أنطوانيت، كان يتم قص شعرهم، والأرشيف يوفر الصور اللازمة لذلك.

ثمة سياق تاريخي غائب عن هذا الحدث ولا يستدركه الفيلم. واقع الأمر أن لويس السادس عشر وزوجته، لم يرتكبا أخطاء سياسية بحق الشعب الفرنسي، بل ورث لويس 16، تركة مثقلة بالمشاكل السياسية من لويس 14، والذي كان على خلاف مع طبقتي النبلاء والمجلس التشريعي. كما ورث لويس 16، خزينة مثقلة بالديون من لويس 15 الذي كان زيراً للنساء، يبني قصراً لكل امرأة يرتبط بها، لكن على حساب الخزينة العامة. وعندما قامت الثورة الفرنسية، وتم اقتحام سجن الباستيل، لم يعثر الثوار على سجناء سياسيين. وبالتالي، لم تكن ماري أنطوانيت ولا زوجها رمزين لفساد الحقبة الملكية ما قبل الثورة، بل لويس الرابع عشر.

وصل نابليون إلى باريس كمهاجر إيطالي كورسيكي في عمر العاشرة، من دون أن ينطق بكلمة فرنسية واحدة. تعلم اللغة الفرنسية مع لكنة إيطالية صريحة. تدرج في المناصب بعد تحريره لمدينة تولون وإنقاذه للحكومة من الفوضى الثورية. انتصر في جميع الحروب التي خاضها وانسحب من حربَين. واحدة ضد الإسبان بسبب تسمم في الأكل حصل لجنوده، نتيجة خطأ في استخدام بعض الأعشاب المنكهة للطعام صالحة للأكل في شمال شرقي فرنسا، بينما تتحول العشبة ذاتها مع حرارة الجنوب إلى مادة سامة. أما الحرب الأخرى التي تظهر في نهاية الفيلم وهي آخر حروبه، أي معركة واترلو Waterloo 1815 ضد الروس، فقد ساهمت الثلوج في حرمان جنوده من الإمدادات، نظراً لصعوبة إيصالها بالعربات حينذاك. غير أنه تكتيكياً لم يخسر أية حرب. كما لم يحمل سيفه أو بندقيته مهاجماً جنوداً آخرين، كما أظهره سكوت. غياب هذه التفاصيل، يجعل حكاية الفيلم افتراضات مجتزأة حول شخص لا يمكن اجتزاؤه إلا بتأطيره في صورة لا تشبهه.

في التأريخ، يعمل السياق كنسيج لتكوين الأحداث. وحينما يكون هناك تفصيل غير دقيق، يظهر تركيب القصة غير منطقي. تتجلى هذه النقطة في الومضة غير السياقية لحملة نابليون على مصر. فعطفاً على المشهد المجاني للقصف الذي لم يحدث للأهرامات، لم تكن عودة نابليون من مصر إلى باريس نتيجة لانتشار خبر خيانة زوجته له. بل لأن الطبقة التي فوّضها الحكم في غيابه، فشلت في إدارة البلاد وكانت تتآمر ضده، نظراً لورود أخبار عن تحالف روسي نمسوي ضد فرنسا.



أما بخصوص اعتماد سكوت للعلَم الفرنسي الحالي بألوانه الثلاثة منذ بداية الفيلم، فذلك خطأ مجاني آخر لم يتأكد منه سكوت، لأن هذا العلَم اعتُمد العام 1830، أي بعد وفاة نابليون بتسع سنوات.

ثمة مشهد غاية في الجمال يعالجه سكوت في معركة أوسترليتز 1805. تبدو داخل الفيلم كمشهد سوريالي ساحر على البحيرة المتجمدة المتحولة إلى فخ للجنود الروس والنمسويين وهم يسقطون بالعشرات داخل البحيرة. قبل الخوض في التفصيل التاريخي، ثمة تناص أو بالأحرى استلهام من المخرج الروسي سيرج إزنشتاين وفيلمه Alexandre Newski 1938، وبالتحديد مشهد تكسر الجليد تحت أقدام الجنود. وهي معالجة بصرية يستفيد منها ويطورها سكوت عبر تقديمه لها من أسفل الجليد الذي تخترقه القذائف المدفعية وتختلط الدماء ببياض الثلج والماء، ومن الأعلى في مشهد أقرب إلى المعالجة الحركية للوحات المستقبلية الإيطالية. غير أن حقيقة هذه المعركة، أن المؤرخين لم يعثروا سوى على آثار 12 جثة فقط وعدد قليل من العتاد العسكري، في حين أن سكوت قد غمر فيها المئات من الجنود الروس.

تُحسب لريدلي سكوت قدرته على جعل التاريخ معاشاً حسياً بمؤثرات بصرية وصوتية غاية في البراعة. توجد في أقل تقدير ثلاث لوحات أساسية. أولها لوحة جيروم حيث يلتقي نابليون بأبي الهول. والثانية، دراسته لواحدة من أشهر لوحات البورتريه لنابليون يوم تتويجه امبراطوراً في كنيسة نوتردام باريس 1804، حينما حضر الفنان الشاب جان دومينيك أنغر(1780-1867) مراسيم التتويج، ليرسم الإمبراطور في صورة مختلفة عن ملوك فرنسا. فارتدى نابليون يومها عباءة حمراء أرجوانية، هذا اللون الذي كان مخصصاً لأباطرة الرومان البيزنطينين، وفي مقدمتهم الإمبراطور قسطنطين. اللوحة المعروفة باسم نابليون على العرش الإمبراطوري، وتظهر في الفيلم كمشهد حي يمكن ملامسته.

لكن الشيء الآخر الأهم ههنا، هو اللقاء المتخيل والتاريخي بين أكثر الرسامين تفضيلاً لدى نابليون وفي المكان ذاته. أي إنغر وجاك لويس دافيد، حيث كُلِّف هذا الأخير من قبل نابليون شخصياً برسم مشهد تتويجه إمبراطوراً، واستغرقت اللوحة سنتين لإنهائها، وقال فيها نابليون لحظة عرضها بأنه يمكن المشي بداخلها (مقاسها 10 أمتار في6 - متحف اللوفر). بينما قال ريدلي سكوت بأنه يمكن العيش بداخلها، وهذا بالضبط ما قام به. وعلى عكس ما جرى في التاريخ والفيلم، صحح سكوت الإضافات المتعمدة من لويس دافيد الذي وضع والدة نابليون في قلب اللوحة، بينما في الحقيقة لم تحضر والدته مراسم التتويج. فعدلها سكوت بناءً على الوثائق التاريخية المؤرشفة لكامل تفاصيل التتويج، وضمنها رفض نابليون أن يضع البابا بيوس السابع التاج على رأسه، كونه كان يعتبر عرشه الإمبراطوري أهم من المذبح البابوي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها