الخميس 2023/10/05

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

ݘان شوي أو "الثلج المعاند"...اسمها يعلل أسلوبها ويتجه إلى"نوبل"

الخميس 2023/10/05
ݘان شوي أو "الثلج المعاند"...اسمها يعلل أسلوبها ويتجه إلى"نوبل"
اعتبرت سوزان سونتاغ بأن شوي هي الروائية الصينية الوحيدة الجديرة بجائزة نوبل
increase حجم الخط decrease
باتت الروائية الصينية "ݘان شوي" (1953) Can Xue، واسمها الأصلي" دنغ شياو هاو"، تتصدر ترشيحات جائزة نوبل الآداب لهذه السنة وتنافس عليها منذ ثلاث سنوات. يتجلى أسلوبها بداية في معنى اسمها المستعار"ݘان شوي" أي "الثلج العنيد" المتبقي سواء في أعلى الجبل أو في الوسخ، ويعكس صلابة في شخصيتها الرقيقة. وقد طلبتُ من صديقة صينية أن تلفظ لي الاسم باللغة المندارينية، فجاءت تهجئته مغايرة عن اللغات الأوروبية.

تأخرت شوي في نشر مجموعتها القصصية الأولى "فقاعات الصابون في مياه قذرة"(1985) نظراً لتعرض عائلتها للنفي الداخلي من قبل النظام الرقابي للثورة الثقافية الشيوعية. إذ كان والدها رئيس تحرير جريدة شيوعية، وفي العام 1957، كتب فيه "مُخبر ثقافي" تقريراً يشير إلى ميول مناهضة للثورة في أفكاره. وفي الصين، كما هو الحال في كل نظام بوليسي، الثورة لا تشوبها شائبة.

على غرار توني موريسون(نوبل 1993)، أخذت شوي العقبات كمحفزات. فُصلت من المدرسة بعد المرحلة الابتدائية وأكملت تعليمها الذاتي بالقراءة في حجرتها الضيقة تحت الدرج الداخلي لبناء ما، بعد ابتعادها قسراً عن كوخ والدها المنفي في الريف. انتقلت بعد سنوات مع زوجها إلى بكين العام 2001، واشتريا ماكينة خياطة تدبيراً لحياتهما المُعلّمة بالشُبهة كتركة عائلية. تعلمت الإنكليزية ذاتياً، وقرأت الأدب الروسي والأميركي. غير أنها لا تشبه كثيراً ما قرأته. كتبت ستة كتب نقدية عن كافكا وكالفينو وبورخيس وشيكسبير ودانتي.

ورغم تكرارها الإشارة إلى تأثرها بدانتي، إلا أني بقراءتي لها، عبر الترجمتين الفرنسية والعربية، وجدتُ أن التركيبة الحسية لجُملها تفترق عن دانتي. ففي "الكوميديا الإلهية"، يأتي الوصف الحسي للفضاء متوافقاً مع الرغبة في وضع القارئ داخل البيئة المتخيلة، وبزخم بصري مفرط يقارب العمارة القوطية في التفاصيل. بينما تأتي جملة شوي بنسق تجريبي صريح، مأخوذ بحفر التعبير عبر توليفة معقدة من التقنيات التعبيرية، منها تحويل حركات الرقص المعاصر إلى إجراء سردي لتخفيف جريان القصة، أو استعادتها المؤثرات الحسية للمساحات الضيقة في طفولتها، واستثمار تحسس التحولات التي يحدثها تحرك الضوء في لون جدار متعفن ملاصق لوجهها، لاقتراح تعابير بصرية تخلط الطبيعي بالميتافيزيقي. كأنها بذلك تسحب القارئ إلى عمق الطبيعة حيث تلتقي بروح العالم، وفقاً لما تكرره عن التصور الصيني للعالم وقوة مفهوم وحدة الإنسان/المادي والسماء/اللامادية.

تنفي شوي اكتراثها بالسياسة وبالتقاليد الصينية، وتجد أن التعبير عن الحياة في عاديتها مجرد ابتذال أدبي. وعلى الرغم من التسهيلات التي يمكن أن توفرها الإسقاطات السياسية للإعلام الغربي على نصوصها، بما يتوافق والسياسات التسويقية المروجة لأعمال منافسين لها في لائحة نوبل كماركات ثقافية مخادعة، إلا أنها تجد ذلك أدلجة قسرية وتنميطاً لأفكارها المأخوذة بتخريب الصلات العادية بين الأشياء والبشر، ومبادلتها بالعمق الطبيعي لتكوين الانفعالات.

لم أتوقع أن تكون شوي غزيرة الإنتاج. اعتقدتها تكتب أقل بكثير مما وصلنا من نشرها. مئات القصص القصيرة وعشرات الروايات والمقالات، وحكاية أوبرا واحدة. وقد شدت انتباهي محاولة تفرغها لفلسفة الفن الحديث بمؤثرات "عقلية" غير غربية. كتابها هذا لم ينشر بعد، لكنها تستفيض في شرح مسعاها لدحض فكرة "ما بعد الحداثة الغربية" والتأكيد على أن نظام الأشياء بعد تحطيمه لن يفضي إلى أي شكل من أشكال المعنى. بل وأحياناً يحول المعنى إلى كليشيهات متوافقة مع الصرعة الثقافية المفضلة للترويج في ثقافة مهيمنة دون غيرها.

بنَت شوي علاقتها مع الثقافة الغربية على موقف منفتح وتكاملي، أسسه مواطنها لو شان. وانتقدت "العصابات الثقافية" الصينية المتحكمة في حركة المفاهيم الثقافية. موقفها هذا يتقاطع مع التصورات الثقافية التي أدخها إلى فرنسا واحدٌ من ألمع الكتاب الفرنسيين الصينيين، فرانسوا جينغ، المُهجن بالثقافة التاوية والأفلاطونية، والذي عمل خطاطاً محترفاً لفن الخط الصيني، وبالتالي خبيراً في الفن التقليلي المينيماليزم. كتب الشعر بصيغ لغوية مُعشقة برؤى ثقافية متقابلة، وتوافق مرهف بين العقل الصيني والتفكير الغربي. ترك تأثيره في جاك لاكان خلال فترة عملهما على ترجمة الشرائع الصينية الكلاسيكية. ويعتبر كتابه الصغير "خمسة تأملات في الجمال" Cinq méditations sur la beauté (2006) من النصوص المعززة لليقظة أمام الوجود. نص يعيد تنظيم علاقتنا بالوجود وبأنفسنا، معتبراً أن الجمال هو الخير الأسمى المترجم إلى فعل ملموس يفضي إلى الترحيب بتصورات أخرى عن الشيء ذاته.

شوي التي عانت الأمرين في الصين ورفضت ربط عملها بمعاناتها، وجينغ الذي وصل عبر منحة اليونيسكو للدراسة في باريس وهو في العشرين من عمره ليغدو جينغ لاحقاَ ممثلا للتفاعل الثقافي الصيني الأوروبي... استطاع كلٌّ منها بصيغ مختلفة، أن يتحرر ويحرر الأفكار وطبيعة الانفعالات من الأطر النمطية المهيمنة في مصفوفة التصنيف الثقافي الغربي.

تظهر تأثيرات إيتالو كالفينو صريحة في طريقة شوي في تفكيك الواقع بما يجعله ملتبساً بالحلم. أقصد بالتحديد عمل كالفينو الأخير "يوميات السيد بالومار" الذي وصل به إلى ذروة أسلوبه في تشبيك المظاهر بباطنها المتنوع، كمتجر الجبن الذي جعل كالفينو دخوله بمثابة قراءة للتداخل الثقافي في كل قضمة، حيث تتفاعل أذواق متراكمة من الحضارات المخصبة بالهجرة.

ويظهر أيضاً تأثير كافكا في المقاطع التي تتناول فيها شوي فكرة العيش داخل الرعب الصيني وعدم اكتراث حركة الأحداث الواقعة بمعقولية تنظيم الأشياء في الواقع، حيث لا علية لتفسير تداخل العنف بالروتين في أجهزة الدولة. غير أن الرعب بالنسبة إلى شوي هو منفذها إلى الخَلق. ما يبدو ممنوعاً يغدو إجراءاًً لتعبيرية مضاعفة، وبنى تصورية مطعّمة بالغرابة المتجذرة في الواقع، ومعابر رفيعة للتعمق في واقع الأشياء واستخلاص تنوعها المفضي إلى وحدة العالم، تلك التي لا تظهر سوى في العمق.

يأتي كتابها "حوارات في الجنة"(1992) Dialogues en paradis, Gallimard، بقصصه الـ13، مؤصلاً لتجربتها في ربط المتعذر جمعه. اسخيليوس وسوفكليس برفقة فرجينيا وولف وكافكا. لم أعثر على أي دراسة باللغتين الفرنسية والانجليزية تتناول هذا العمل. بعض المقالات الدعائية لا أكثر. النصوص أقرب إلى أغاني الـPop art. تذكرني بعض القصص في كتاباتها بأعمال مغني الروك البريطاني ديفيد بوي David Bowie، الذي جعل الفنون تعمل معاً في أدائه الاستشرافي والمُجندَر، مراقباً التحولات الاجتماعية الدقيقة التي تغفل عنها الثقافة الرسمية، بينما هي تتفاعل في العمق الاجتماعي وتنعكس كتبقعات في السلوك، وانحرافات عن النسق الاجتماعي المتوارث. كانت أغاني ديفيد بوي متقدمة على العلوم الاجتماعية في عصره، واستشرافاً لمآل الذوق الفني وأشكاله الاجتماعية الموازية. وهذا ما يمكن استخلاصه من فكرة "التخريب" التي تؤسس شوي جزئياً صيغتها النصية عن الواقع الاجتماعي.

اعتبرت سوزان سونتاغ بأن شوي هي الروائية الصينية الوحيدة الجديرة بجائزة نوبل. وأسست مترجمتها اليابانية ناوكو كوندو، جمعية بحثية لدراسة أعمال شوي، وما يهمني في هذه الإشارات هو دورها في إثارة الانتباه إلى تجربة شوي الأدبية والثقافية، وقدرتها على تجاوز العقبات بتثوير سبلها التعبيرية لتمثيل العمق الإنساني بلا ابتذال أو عبارات مكررة. معززة بذلك ضرورة البحث عن صيغ التعبير الموافقة للطبيعة الملغزة لوجودنا، والذي يفرض علينا حذف الكثير من الشيء الذي سبق قوله، كونه يحجب فرادة المتروك هناك من دون تعبير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها