الخميس 2023/11/23

آخر تحديث: 16:23 (بيروت)

يوسف "إلى حد ما"

الخميس 2023/11/23
يوسف "إلى حد ما"
يوسف إلى جوار إحدى جدارياته
increase حجم الخط decrease
عندي ولدان. اختارت زوجتي اسم الأول، يزيد، نسبة إلى يزيد المصري، الجدّ الأكبر ومؤسس العائلة في رواية "حديث الصباح والمساء"، غير أن كل من سمع لفظه حسبنا سمّيناه أسوة بمعاوية بن أبي سفيان في بِكره يزيد؛ الخليفة المورّثُ الذي أبغض سيرته ويشترك معي في بغضها كل إنسان ذي حسٍ حي، لكن الله راضانا ومنحه زيادة في الجسم والفهم سبق بهما سنه.

ولتصحيح خطأ الصدفة قررت تسمية ابني الثاني "الحسن"، أسوة بعلي بن أبي طالب، ربما أعدّل الكفة فتنام الفتنة في بيتي، فجاء رغماً عني "يوسف"، ومع ذلك فرحت بالاسم، فهو أيضًا فعل -وإن كان عبرانيًا- يكاد يحمل المعنى نفسه "هو الله يمنح ويضاعف، الله يزيد". قلتُ سيصيب حظ أخيه، لكن يبدو أنه جاء يوسفَ "إلى حد ما"، ربما لأنني لم أخلص النيّة!

لم يحظ الولد بجسم أخيه، أو طلاقته في التعبير، لكنه حاز ذكاءً لافتًا وخفة ظل ووسامة، فهل كان ذلك السبب في أن تُذيّل معلمة اللغة العربية، في صفه، فرضه المدرسي بجملة "إلى حد ما"، تعليقًا على عدم إتقانه الكتابة.

ربما لا تعرف تلك المعلمة أن يوسف -الذي لم يكمل عامه الرابع بعد- فنان، يعي، رغم حداثة عمره، أن الفنّ "لا يأتي بالقوة. لا يؤخذ بالذراع ولا العافية"(*)، لذا لا يعتد بالسطر خطٌ يسير وفقه، هو يحسب الحرف بدقة يعرفها؛ يضع إبهامه الأيسر ثم يشدّ شرطة(شحطة قصيرة) يسيرة ويصنع لها سِنَّين، ويرسم مكان النقطة دائرة، فيكون حرف الباء، قبل أن يضع إلى جوارها بوصة يزين رأسها بخطاف، مثل صياد أريب طبعه النيل، فيظهر الألف تاليًا، يكتب "أب" حرفاها من اليسار إلى اليمين، في تمرد عفوي على السلطة الأولية. ويصنع من الكلمة تعويذة، يرصدها في سبعة تكوينات –فقط- من أصل تسعة مفترضة، ويقول خلصنا.


يعود يوسف كل نهار، من دون أن يأكله الذئب، يحمل ختمَي المعلمة "إلى حد ما" على فروض أنجزها، و"أين الواجب" على أخرى لم يؤدها. قد يعيش الشاعر أبد الدهر من خلال بيت في قصيدة، لكن يبدو أن مُدرسته لا تحفل بغير الدواوين المتراكمة، رغم أنها لا تحسن الاسترسال في الكلام، وتحب، ربما مثله، الاقتصاد، وإن كان ذلك لا يكفل لها وحده أن تصير شاعرة؛ تكتب في كراس المتابعة كتقييم لسلوكه في الفصل خلال الأسبوع "مقبول"، ونحن، أمه وأنا، لا نحسن تأويل الرؤى، فلا نفهم إلى أي درجة يصل قبوله!

لا كرامة لنبي في وطنه، غير أن الأنبياء يحسنون الكلام، وكان يزيد طليقًا يقرأ في سن الثالثة، ويقرض وصفة الأكل بيتًا بيتًا من شاشة التلفاز في أي برنامج طبخ يدور عليها. أما يوسف فيختار الإشارة طالما لم يضطر للكلام، رغم أنه يعرف الأسماء كلها، ويفهم متى يتعين عليه استخدامها؛ "What Da Fuck" يعلنها اعتراضًا على كل ما لا يعجبه، وأنسيه الكلمة، وتنسيه إياها أمه، حتى نظن بعد جهد أنه سلاها، ثم لا يصير ينطقها، ولا يستعيض عنها كريمًا بالإشارة، أو ربما يدخرها لشيء أكثر قيمة من استنزافها في اعتراض عابر. حين يفتح فمه للضرورة، يطلب شيئًا أو يبدي رأيه في آخر، يجز بثغريه على أصوات الحروف كأنما ينهاها أن تخرج؛ يعتد يوسف بذاته ولا يبذر في أي مما يخصها، حتى وإن كان ما يفقد من فمه مجرد حروف. عندما يمرض يجيء حزينًا على انكسار التوعك، ويطلب الدواء، يشربه بيده لا بيد عمر؛ نبيل لا يقبل الضيم، أن تربطه رجلًا وكتفًا حتى يفتح فاه لملعقة دواء غصبًا وإن كان فيه الشفاء، يقيئه وكل ما قر في جوفه من طعام.

لا يفضل يوسف اليوتيوب مثل الأطفال، وإنما الألعاب والرسم على الحيطان، في حنين إلى طفولة كان ماضيها مثله وإن لم يشهده أو يعرف عنه شيئًا. هو يريد سيارة كهربائية مثل التي تظهر في سبيس تون كمكافأة على شطارته، وورقة وقلم "عاوز أكتب"، ويريد أن "أروح تيتة"، وأن يصاحب سندس ابنة عمه التي تسحبه وراءها مثل أمه. لكنه أيضًا مثل الأطفال يطلب أحيانا "موبايل بابا"، ويسرقه في خفة حين أرفض.

ربما تسعى معلمة اللغة العربية جاهدة لتنفيذ خطة منهجية أقرتها وزارة التربية والتعليم، ربما ليس في وسعها أن تترفق قليلًا بأطفال لم يتجاوز بعضهم الأعوام الأربعة، لكني حين قارنت حجم فروض يوسف في تلك المادة، بمادتي اللغة الفرنسية والرياضيات، وجدت الأخيرتين في غاية الاعتدال من حيث عدد الفروض المطلوبة خلال الأسبوع، فأي المعلمتين ملتزمة وأيهما متهاونة؟

لا أعرف الإجابة، حتى الآن، لكني سأسعى إليها بالتأكيد، ربما سأدين النظام التعليمي كله، أو سأنقله إلى صف آخر أو مدرسة أخرى، وإن كان ذلك لن يغير من الأمر شيئًا، فيوسف حر مثل شاعر، وماهر مثل صياد، ولص مثل فنان، ولا يتقن التدوين مثل كل الأنبياء، لذلك سيظل في عيون معلماته "مقبول" (غير ممتاز)، وسيبقى "إلى حد ما".


(*) عماد أبو صالح، من ديوان "أنا أعمى".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها