الخميس 2018/03/08

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

"امرأة رائعة" لسباستيان ليليو.. حياة أفضل تنتظر

الخميس 2018/03/08
"امرأة رائعة" لسباستيان ليليو.. حياة أفضل تنتظر
جائزة الأوسكار لطالما كانت محل جدل وخلاف حول قيمتها الفنية
increase حجم الخط decrease
في آب من العام الماضي وافقت المحكمة الدستورية فى تشيلي على مشروع قانون يخفف الحظر الكلي المفروض على الإجهاض فى البلاد. هذا السياق الاجتماعي المحافظ  للغاية في بلد يعدّ معجزة اقتصادية في القارة اللاتينية يجب وضعه في الاعتبار، قبل مشاهدة أو قراءة "امرأة رائعة" (*)، الفيلم الأخير للمخرج والكاتب سباستيان ليليو، الفائز مؤخراً بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي؛ لأن هذا سيحميه من اتهامات مألوفة حول تأثيرات التمويل والمنح الأجنبية على الشكل النهائي للفيلم وموضوعه.

ليليو، المتحدر من أصل ارجنتيني والذي يحمل الجنسية التشيليانية ويعيش بين برلين وسانتياغو عاصمة تشيلي، يختار لفيلمه شخصية نسائية تتمحور حولها القصة، على غرار فيلمه السابق "غلوريا" المتوج بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان برلين السينمائي قبل أربع سنوات، والذي يصوّر رحلة امرأة مطلّقة في أواخر الخمسينات من العمر تصرّ على عيش حياتها الرومانسية والجنسية بشكل مُرضٍ. "امرأة رائعة" كان له نصيب في البرلينالة أيضاً العام الماضي حيث توِّج بجائزة أفضل سيناريو، لكن غاب عنه تتويج مستحق بجائزة أفضل ممثلة لبطلته دانييلا فيغا.


ببساطة، تدور قصة الفيلم حول مارينا (دانييلا فيغا)، وهي امرأة يصعب تصنيفها في جملة واحدة، فهي شابة متحولة جنسياً تعمل في أحد المطاعم وتستطيع تأدية أغاني البوب ومقطوعات الأوبرا بنفس الاتقان. ترتبط مارينا عاطفياً بأورلاندو(فرانسيس رييس)، وهو رجل ثري متزوج ومنفصل عن عائلته، في أواخر الخمسينيات من عمره، وهو بذلك يبلغ ضعف عمر شريكته تقريباً. إلى هنا لاتزال الحكاية حول "علاقة عاطفية طبيعية بين شخصين بالغين"، باقتباس عبارة مارينا في شرحها لأحد المحققين عقب وفاة أورلاندو المفاجئة والمأسوية في أول ربع ساعة من الفيلم، لكن بعد هذه المقدمة القصيرة، يتحول الفيلم إلى رحلة جحيمية من الرفض والتحامل الاجتماعي تضطر مارينا لاختبارها كاملة بحثاً عن أحد حقوقها البسيطة والأساسية: توديع حبيبها للمرة الأخيرة.

يُذكِّر عالم "امرأة رائعة" إلى حد ما بميلودراميات بيدرو ألمودوفار، من ناحية توفُّر الفيلم على شخصيات نسائية قوية واختياره نهجاً غير متحيز في مقاربة حياة الأقليات الجنسية. ولكن ليليو ليس ألمودوفار حين يتعلق الأمر بإفراد مشاهد مطولة لإبراز عواطف مستهلكة سينمائياً. هنا ثمة حسّ إخراجي مينمالييميل للإيجاز في إظهار العواطف، ويعوّل كثيراً على الموسيقى المصاحبة وتأطير الكادرات في إيصال الشحنة العاطفية المقصودة. الحب بين مارينا وأورلاندو يمكن للمشاهد تصديقه، ولكن لن يُرى جانبه الحسّي إلا في مشهد مبكر وموجز. بديلاً من ذلك، يعيش الفيلم حرفياً على الحضور الهائل لممثلته العظيمة، التي يتيح تركيز السيناريو عليها كموضوع أساسي، العودة إليها في كل مرة، مهما تفرّعت وامتدت تفاصيل القصة إلى حكايات وشخصيات جانبية، تقف في صفّ البطلة أو تحوّل حياتها جحيماً.


النجم الحقيقي هو القادر على إظهار الصغير كبيراً. وفي أول أدوارها الكبيرة على الشاشة، ترفع دانييلا فيغا حتى أكثر الأحداث العادية، مثل ملاطفة كلب أو نظرة في مرآة المصعد، إلى إيماءة ذات طابع جليل خافت. مع كل وقفة أو نظرة، تهيئ الممثلة المجال لميلودراما على وشك الحدوث. ثمة زخم تعبيري يحمله وجهها، بملامحه الذكورية وظلم العالم الذي يثقله بفظاعات عليه ابتلاعها كي يستطيع إكمال يومه والابتسام في وجوه الزبائن في المطعم الذي تعمل به. الممثلة الكاريزمية لا تلعب دور البطلة بسيادة كبيرة وحسب، لكنها تبقى دائماً، كما هو مبين في عنوان الفيلم، شخصية غامضة، أو ربما شخصية خيالية. يؤكد الفيلم على إبهام الشخصية ذلك في أكثر من مشهد، بانعاكسات متكررة لوجهها، ثم بلقطات موجزة وفعّالة تستحضر عالماً آخر مثل حلم يقظة معيش، مثل ظهورات أورلاندو العديدة أمام عينيها. أما حقيقة أن دانييلا فيغا نفسها امرأة متحولة جنسياً، وبالتأكيد اختبرت بعض مظاهر الإهانة التي يوردها الفيلم ضمن رحلة مارينا؛ فتضيف ثقلاًدرامياً للفيلم وصدقيته.

ثمة غموض في قلب الفيلم، يبدأ مع اللقطات الافتتاحية الساحرة لشلالات إيغوازو، الواقعة على الحدود بين البرازيل والأرجنتين، حيث كان من المفترض أن تكون وجهة العطلة المنتظرة (هدية أورلاندو لمارينا في عيد ميلادها)، العطلة التي لن يتمتع بها العاشقان أبداً. بعد فترة وجيزة من مغادرته الساونا، يدرك أورلاندو أن ضيّع تذكرتي السفر هناك. بعد وفاته، يبقى مفتاح خزانة أورلاندو الخاص بالساونا مصاحباً لمارينا، دون أن تعرف ماهيته، قبل أن تتكفّل المصادفة بقيامها برحلة بحث داخل الساونا للعثور على الخزانة المنشودة بحثاً عن أي شيء، لتجد نفسها في النهاية أمام خزانة خالية من التذاكر أو الإجابات. هذه الضفيرة من سيناريو "امرأة رائعة" ليست الأكثر بعثاً للطمأنينة، لكنها تنسجم مع عدة لقطات لمارينا أثناء بحثها في المرايا، أو في انعكاس وجهها في النوافذ، تشير إلى أن الفيلم ليس عن حاجتها للتغلب على القيود المجتمعية، بقدر ما هو رحلة استكشاف ذاتية تبحث فيها مارينا عن نفسها داخل نفسها وتحتضن هويتها المتفردة التي اختارتها بنفسها. ليس هناك شك في أن مارينا ستفعل ذلك، لأنها مثل غلوريا، البطلة السابقة لسباستيان ليليو، تجد نفسها عبر الشروع في الغناء والاستماع إلى الموسيقى والاندماج في الرقص، هناك حيث تترك جسدها المثقل بآلامه ليصير خفيفاً وأثيرياً، في إضاءة حميمية بألوان ساخنة أو في الضوء الطبيعي.

 


الصدع العميق الممتد على مدى ربع قرن من انتهاء ديكتاتورية بينوشيه حاضر دائماً بشكل لا شعوري داخل الفيلم. غضب أسرة أورلاندو على مارينا، يصبح كراهية كاشفة في سياق الصراع المتصاعد، مثلما يمكن النظر إليه كإرث لنظام سياسي واجتماعي جعل من بعض رعاياه كائنات أدنى من البشر يتوجّب على السلطة، وأصحابها، تقويمهم وعلاجهم. فإذا كانت زوجة أورلاندو السابقة سونيا (آلين كوبنهايم) التزمت حديثاً مهذباً لفترة وجيزة في لقاءها الأول مع مارينا في مرأب للسيارات تحت الأرض، فهي تدعوها لاحقاً بالكائن غريب الوصف والتعريف وتحظر عليها حضور جنازة أورلاندو. ابن أرولاندو كذلك سيعمل على طرد مارينا من شقة والده في أسرع وقت، وحرمانها من كلبتها الحبيبة، بل سيعتدي عليها لفظياً وجسدياً، من دون أن ينسى إهانتها بتأصيل علمي يجعلها مساوية للحيوانات الأليفة. الأطباء ومحققو الشرطة لن يتورّعوا عن إيداعها في خانة المشتبه بهم وإجبارها على فحوصات جسدية مهينة لإبراء ذمتها من أي تهمة جنائية في وفاة حبيبها. هاوية على المرء مشاهدتها للوقوف على أوضاع لاإنسانية تفرضها ظروف الوصاية المجتمعية وهندسة التصنيفات الجندرية.

بعيداً من النقد الفني للفيلم، وانطلاقاً من ارتباط المنتج الفني بواقعه الاجتماعي، تبرز قيمة مضافة لتتويج "امرأة رائعة" بجائزة الأوسكار تتعلّق بالدور الممكن لعبه من أجل تحسين أوضاع المتحولين جنسياً في تشيلي. فبعد يومين من تتويجه بالأوسكار، استقبلت الرئيسة التشيلية ميشيل باشيليت الثلاثاء الماضي فريق الفيلم داخل القصر الرئاسى، للاحتفال بفوزه بالجائزة البارزة وتجديد المطالبة بضرورة تمرير قوانين حقوق المتحولين جنسياً فى البلاد. وتحاول الرئيسة المنقضية ولايتها استخدام الزخم الحالي للفيلم لدفع مشروع قانون الهوية الجنسانية الذي يعطي المتحولين جنسياً الحق في تغيير اسمهم وجنسهم بشكل قانوني وإثباتهما على هوياتهم الشخصية، وهو مشروع مقترح في الأصل عام 2013، ولكن الجديد هو اعطائه "حالة الاستعجال الشديد" لتسريع مروره من خلال مجلس الشيوخ، قبل انتهاء ولاية باشيليت هذا الأسبوع.

مثل هذه المؤشرات تعيدنا إلى قيمة جائزة الأوسكار من جديد، وهي جائزة لطالما كانت محل جدل وخلاف حول قيمتها الفنية وطريقة الترشيح لها والفوز بها، لكن ربما يبقى لها ذلك التأثير القادر على إحداث الفارق في حياة أفراد ومجتمعات بأكملها، وهو أمر إيجابي في بعض الأحيان، في بعض الأحيان فقط.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها