الخميس 2017/09/28

آخر تحديث: 10:13 (بيروت)

"بلد" ياسمين حمدان: الشكاية والإغتباط بها

الخميس 2017/09/28
"بلد" ياسمين حمدان: الشكاية والإغتباط بها
يتصاعد الفيديو كليب، الذي أخرجه إيليا سليمان، إلى خيبته
increase حجم الخط decrease
منذ عقد تقريباً، راج في لبنان التسويق للحملات التجارية، التي تنظمها المؤسسات الكبرى على أنواعها، من خلال عروض الرقص الحية و"العفوية" والمعروفة باسم "فلاش موب" تحديداً، في الأماكن العامة من قبيل المولات أو المطار أو الحدائق العامة.


على هذا النحو، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نظمت مؤسستا "خدماتي" و"أليسار غروب" "فلاش موب" في مول "ذا سبوت" في النبطية، وكان محوره الدبكة وأغنية "بيكفي إنك لبناني" لعاصي الحلاني. وقبل ذلك، عمدت "M&C Saatchi" إلى تنظيم آخر في مطار رفيق الحريري الدولي، وكان أساسه تأدية الهيب-هوب على إيقاع إحدى أغنيات الراحل آلان مرعب.

وسرعان ما تتحول هذه العروض إلى فيديوهات متداولة عبر "يوتيوب"، حيث تبدي مشهدها وكأنه مفاجئ، وعفوي، أي أن التجمع والرقص فيه ليسا معدين أو متفق عليهما سلفاً، وحيث تحمل مشهدها نفسه رسالةً وغايةً، مفادهما تقديم الوجه "الإيجابي"، أي البهيج والمسلي، للبلاد.


في هذا السياق، من الممكن الوقوف على فيديو-كليب أغنية ياسمين حمدان "بلد" (إخراج إيليا سليمان)، إذ يبدو معاكساً لتلك العروض الحية والمصورة، إلا أن معاكسته لها لا يؤدي سوى إلى إندراجه في مسارها، وخضوعه لمقياسها، لكن من دون تحقيقه.

فبدلاً من تقديم الوجه "الإيجابي" للبلاد، تطمح الأغنية، وبإيقاع متصاعد إلى خيبته، وبصوتٍ مترفه بضيقه وراخٍ في حبسته، إلى تقديم الوجه "السلبي" لـ"البلد"، الذي تعينه بـ"الإشاعات المسيطرة" و"حواجز الحرب والفتنة" و"الزهق" و"الإحباط"و"الغلاء المعيشي" و"الوضع الأمني"... قبل أن تحدد المتلفظ به بكونه "المواطن"، وتضيف إليه أوصافاً من قبيل "مخدوع" و"مخلوع" و"مهجور" و"مهزوم". تالياً، تقدم الأغنية حالة هذا "المواطن" التعيسة، وطبعاً، تفعل ذلك بالإتكاء على كلام الشكاية ومنطقه الشائع محلياً، والذي صار، مع الوقت ومع الترداد، جزءاً من موضوعه، وطرفاً من أطراف إنتاجه.

على أن الفيديو-كليب، ولما يريد أن يهب مغنى الشكاية جملة بصرية، يستند إلى موقف من مواقفها البائنة والمتداولة عبرها، وهو زحمة السير، حيث تجلس حمدان، "المواطن"، في سيارة الأجرة، وحولها، ضوضاء العجقة، تعرض "وضع البلد" قبل أن يطفح الكيل، وعندها، تنتفض. فتنزل من التاكسي، تمشي بين المركبات، تقف على سطح إحدى السيارات، لكنها، وما أن تفعل هذا، حتى تهبط من جديد، وتقوم بخطوات الاختراق، لتعبّر عن حالتها، حالة "المواطن" التعيسة، وتغيرها.


لكن هذه الخطوات أيضاً، تتعلق بكلام الشكاية ومنطقه، أي إقتحام التلفزيون والإطلالة على هوائه الذي يكشف المغنى باعتباره مجرد تأوه وثرثرة، وإقتحام البرلمان، ونيل سدة رئاسته، في حين أن نوابه لا يبالون. نافل القول أن هاتين الخطوتين ترتبطان: من ناحية، بمقولة تغيب الإعلام المرئي عن تناول حالة المواطن، بما هو شاكٍ دائم وخالص. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق، لأن هذا الإعلام، وشقه الذي يسمى "إجتماعياً"، يقوم بمنطق الشكاية وكلامها، تماماً كالأغنية، بحيث أنهما يتشاركان في تقديم التصور ذاته عن "مواطنهما". ومن ناحية أخرى، ثمة اختزال تبسيطي للسلطة السياسية، في مجلس النواب، أي في تمثيليته. وفي النتيجة، تقتحم حمدان، وباعتبارها "المواطن" التعيس، شاشتين: شاشة الإعلام المرئي، وشاشة التمثيلية السياسية. تقتحم ما هو في الأساس، مشرّعاً لها، وفي الأساس موجودة فيه، وليس ممنوعاً عنها.

وبعد ذلك، تعود إلى زحمة السير، إلى وقوفها على سطح سيارة الإسعاف، أو على سطح مركبة الشكاية، التي تستكملها، ولما ترقص على وقعها، تظهر مسرورة بها، مرفوعة على متنها. هذا ما يجليه تبدل جو الفيديو-كليب من التنكُد، التضايق، من جراء حالة المواطن، إلى السخرية، والتهلهل، من جرائها أيضاً. فبعد الذهاب إلى الشاشتين، أضحى من الممكن لهذا المواطن، على ما تريده الأغنية وفيديو-كليبها، أن ينقلب إلى منشرح لتعاسته، لـ"هزيمته"، وذلك في شكل تهكمي يجمع بين تحويل موته إلى إدعاء، ومن ثم نفي هذا الإدعاء (فتح صندوق سيارة الدفن على ميت يعزف الغيتار داخل إطار كوستاريكي، كأنه يقول: لست ميتاً ما دمت مطروباً بموتي، وها أن أنخرط في عزف الشكاية)، وقلة الحيلة (يد إيليا سليمان المكسورة وضربها على الطبل الصغير).

على إثر تبدل الجو من التعاسة إلى الإغتباط بالتعاسة، يفضي الفيديو-كليب، في نهايته، إلى عروض الرقص الحية والمصورة، بطريقة "فلاش موب". فمن خلف ياسمين حمدان، يظهر عدد من "المواطنين"، ويتقدمون إلى الأمام، ويرقصون الدبكة.

في المحصلة، يتجاور الوجه "السلبي" للبلد، الذي حاولت الأغنية وفيديو-كليبها إبانته، مع الوجه "الإيجابي" للبلد، الذي تحاول فيديوات "فلاش موب" فبركته. لكن، المجاورة لا تعني التساوي بينهما. فالأول لا يؤدي سوى إلى الثاني، على الرغم من اعتقاده بأنه يعاكسه. والثاني، ومع أنه تسويقي، فقد يترك أثراً في مشاهديه، لا سيما غير المتابعين لـ"يوتيوب"، أي الذين يصادفونه في المطار أو في المول. وبين الإثنين، هناك عرض ثالث، ليس فيديو-كليبياً مخفقاً، وليس افتعال "فلاش موب". لا يهمه تقديم الوجه السلبي، ولا الوجه الإيجابي للبلاد. لا يتكئ على الشكاية التي تنقلب إلى تهكم وتنطوي على اغتباط بموضوعها، ولا يستند إلى ترويج نقيضها الوهمي والمتبدد. ففي زحمة السير، قد يجتمع أناس من تلقائهم، يدبكون لكي يفتح الطريق. يكسرون الإنتظار، ولا يتوقعون أي شيء من أي شاشة. والأهم، أنهم لا يقعون فيها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها