الأحد 2017/08/20

آخر تحديث: 08:46 (بيروت)

محفوظ عبد الرحمن.. الناصري الأخير

الأحد 2017/08/20
increase حجم الخط decrease
"ثمة أشخاص يكتشف الإنسان عند لقائهم أن أسماءهم أكبر منهم، وثمة أشخاص كمحفوظ عبد الرحمن عندما يعاشرهم الناس ويقتربون منهم أكثر، يدركون كم هم أكبر من أسمائهم"، هذا ما حدّثني به أحد أصدقائي "العواجيز" قبل سنوات، عقب مقابلته الكاتب الذي رحل صباح السبت عن عمر ناهز 76 عاماً، إثر جلطة دماغية. قال صديقي الناصري العروبي، إنه كلما اقتربت من محفوظ عبد الرحمن، شعرت بحاجتك إلى الاقتراب أكثر وأكثر، لأن عالمه الإنساني لا يختلف كثيرًا عن عالمه الإبداعي، فهو دائمًا ذلك المثقف الريفي البسيط الذي يُشعرك بأبوّته، ولا تملك مهما اقتربت منه إلا أن تشعر بأستاذيته، ويمتاز بحسّ ساخر وقدرة فائقة على تحويل المأساة إلى ملهاة، فضلًا عن تمتعه بروح الهواية وفكر الاحتراف، عقلية المثقف المدرك لدوره في خدمة مجتمعه وأمته، لا تشغله المادة أو المنصب.

الحديث السابق يصلح مدخلًا للوقوف على عتبات مبدع مصري يعتبره كثيرون آخر كتاب الدراما التلفزيونية المصريين الكبار من جيل الستينيات. قد تختلف مع آرائه السياسية، ولكن لا يمكنك إنكار بصمته البارزة على صناعة الحكي والحكايات العابرة لمواسم الزخم الدرامي برباعيته التاريخية الأشهر "بوابة الحلواني". تجذبك إلى عمله قدرته الفائقة على تحويل المعلومات التاريخية الجامدة إلى شخصيات من لحم ودم، تتحرك أمام الكاميرا أو على خشبات المسارح، فتترسخّ مع الزمن تلك البورتريهات الدرامية في وجدان المتفرج. وكما نتخيّل الزعيم سعد زغلول بقامته المهيبة ووقفته الشامخة، من وحي تماثيل محمود مختار، نتخيّل جمال عبد الناصر خارجًا من فيلم "ناصر 56" كما جسّده أحمد زكي: زعيم سياسي في وقت عصيب من تاريخ مصر، لا يغيب أفراد عائلته وعلاقته بهم عن المشهد. هكذا، يتحوّل الرجل الأيقوني إلى حكاية حية نابضة بالحياة بعيدًا عن جفاف كتب التاريخ واستقطابات السياسة.

في أعماله الأخرى التي تتناول حياة المشاهير، مثل مسلسل "أم كلثوم" وفيلم "حليم"، يمكن ملاحظة الأمر نفسه. وسواء اتفقت أو اختلفت معه على صحة ودقة الرواية التاريخية والرؤية السياسية التي يتبناها في أعماله عن المشاهير، فهو يعيد تصوير الشخصيات بلغة درامية تعطي المتفرج شيئًا يتجاوز حالة التوثيق والتسجيل التاريخي. بعبارة أخرى، لم يتخل محفوظ عبد الرحمن عن الفن تمامًا في غمار تعبيره "الفني" عن رؤاه السياسية والتاريخية. ورغم بروز الموقف السياسي في جميع أعماله، فإن محفوظ عبد الرحمن آمن بألا يلعب بكتاباته دورًا سياسيًا، ورأى أن الحياة تُمارس بكل ردود أفعالها، وكان همه الأساسي مرتبطًا بعلاقة الإنسان بأرضه ووطنه.


وقصة حياة محفوظ عبد الرحمن من القصص المليئة بالأحداث والصراعات والتحولات المختلفة، سياسية وأدبية. خاض مئات المعارك، بقصد أو بلا رغبة منه، حيث صُنف سياسيًا في عهد الرئيس أنور السادات وهو لا يدري، فمُنعت أعماله وهو يجهل السبب، فاضطر للقفز بإبداعه إلى أرض أخرى. أما معاركه التي خاضها بملء إرادته فقد اختار ساحتها في مسرحياته وقصصه القصيرة ومقالاته الأدبية في الصحف والمجلات المختلفة وأعماله السينمائية القليلة ومسلسلاته التلفزيونية العديدة، التي تناول عبرها شرائح المجتمع المختلفة تناولًا عالج فيه سلبيات المجتمع العربي في الريف والحضر. ولم تخل سنواته الأخيرة من مشاكسات عابرة مع رجال السياسة والبزنس، حيث اتهم الدراما المعاصرة بالانحطاط وعلّل ذلك بسيطرة رجال الأعمال على القنوات الفضائية، من ضمن أسباب أخرى، التي تجعلهم يفرضون شكلًا محددًا للفن الترفيهي وللخطاب الإعلامي.

شغلته دائمًا علاقة الحاكم بالمحكوم وفساد رجال الحكم وآليات علاقة الإنسان البسيط بالسلطة، والتزم بهذه القضايا في جميع أعماله تقريبًا، خصوصاً تلك التي جاءت صياغتها في ثوب تراثي تاريخي. كمحبّ للتاريخ وقارئ نهم منذ الصغر، يمكن العثور في كتابات محفوظ عبد الرحمن على هذا الولع بسير الشخصيات المؤثرة تاريخيًا ومجتمعيًا. مسلسلاته الأولى حققت نجاحًا جماهيريًا ونقديًا ويمكن التعرّف على طبيعة موضوعاته من خلال عناوينها، "الزير سالم" (1977) و"سليمان الحلبي" في العام ذاته ثم "عنترة" في العام 1978. عشرات الشخصيات التاريخية عاشها وعبّر عنها، وفي كل مرة اقترب من إحداها كان خلافه معها يتزايد، إلا شخصية جمال عبد الناصر، وهي حكاية غريبة في حدّ ذاتها. فقد اختلف الكاتب مع عبد الناصر في البداية معتقدًا أن تجربة الثورة في مصر ستكون مماثلة لما حدث في سوريا بعد انقلاب أديب الشيشكلي 1949، لكنه بدأ التوحّد مع الشخصية الناصرية بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956، ثم كان الانحياز الكامل لها مع هزيمة 1967، لأنه "أدرك أنه والنظام شيء واحد، وأن الجميع مستهدف من قوى خارجية"!


وجد عبد الرحمن في التاريخ وإعادة كتابته واسقاط رموزه على الواقع متعة لا تُدانى. هناك استطاع العثور على عالمه الذي يمكنه إيداعه أحاسيسه وأفكاره وشخصياته النابضة دائمًا بالحياة، يخرجها من بين صفحات الكتب لتصير صورّا درامية قابلة للتصديق ومحفزة على التعاطف. في جميع أعماله التي قدمها، كان محفوظ عبد الرحمن صاحب موقف مساند لقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وإن جاء تصوير ذلك بطريقة مباشرة أحيانًا وغير دقيقة أحيانًا أخرى. يتضح ذلك في مسرحية "عريس لبنت السلطان" وفي السينما تجده في أفلام "ناصر 56" و"القادسية"، وتجده في التلفزيون في أكثر من مسلسل منها "بوابة الحلواني" الذي يرصد مصائر وحياة عائلة مصرية في الفترة الخديوية في القرن التاسع عشر.

ويبقى له أخيرًا موقفه الرافض للتطبيع مع إسرائيل وهو واضح في كتاباته، ففي مسلسل "ليلة سقوط غرناطة"(1979)، والذي تدور أحداثه كلها في الليلة الأخيرة التي شهدت تسليم أبو عبد الله الصغير، آخر ملوك المسلمين في الجنة الأندلسية المفقودة، مفاتيح مملكته للإسبان، يشعر المشاهد بالإسقاط السياسي الذي يقصده المؤلف والذي تسبب في منع عرض المسلسل بأمر مباشر من الرئيس أنور السادات. كان ذلك زمن زيارة الرئيس المصري لإسرائيل وتوقيع معاهدة السلام، زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وكان محفوظ عبد الرحمن قادرًا على بعث رسالة قوية لأكبر رأس في الدولة يقول له فيها إنه خائب وجبان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها