الأحد 2017/07/02

آخر تحديث: 09:00 (بيروت)

أوليفر ستون حين يمارس التضليل السياسي

الأحد 2017/07/02
increase حجم الخط decrease
لا يحتاج المشاهد لبحث كثير كي يقف على ولع الأميركي أوليفر ستون بسير الشخصيات، الزعماء السياسيين خصوصًا، وتضمينها وجهة نظره وانحيازاته الشخصية، ما يجلب عليه ردات فعل عنيفة وغاضبة وكذلك أخرى احتفائية. على مدى أكثر من أربعة عقود تراوحت فيها مسيرته السينمائية بين النجاح والفشل، سعى المخرج المثير للجدل لإنجاز أفلام تسجيلية وروائية حول سياسيين من أميريكا وخارجها أثّروا بطريقتهم على مجريات الأوضاع في العالم. جون كينيدي وجورج بوش الإبن وريتشارد نيكسون ورؤساء آخرين للولايات المتحدة، تناول ستون حياتهم وقرارتهم في أعماله وكتاباته، أما فيدل كاسترو وهوغو شافيز وفلاديمير بوتين، فجميعهم جالسهم المخرج المتهم دائماً بانحيازه الأعمى لكل ما هو يساري، وقفوا أمام كاميرته لساعات طويلة وكشفوا للمشاهدين ما يريدون أن يعرِّفوا به أنفسهم أمامهم.

حقّق في اغتيال كينيدي في "جيه إف كيه" (1991، فاز بجائزتي أوسكار)، وتناول سيرة وفضائح ريتشارد نيكسون في "نيكسون" (1995، 4 ترشيحات لجوائز الأوسكار"، وسخر من غباء بوش الابن في "دبليو" (2008)، وجرّب حظه مع الإسكندر الأكبر في السينما (2004)، وفي أفلامه الأخرى قارب عدداً من الموضوعات المؤرقة والمثيرة للاهتمام بدءاً من إدمان المخدرات وانتهاء بالحروب العابرة للحدود. هذا السعي وراء الآني والمُعاش والتاريخي جعل اسم ستون مرادفاً لأفلام "القضايا الكبرى" وإثارة المشكلات بطول العالم، ولكن سعي ستون إلى مقابلة "الزعماء"، وإن جرّ عليه بعض المشاكل، فإنه يبرز جانباً مهماً في شخصية الجندي السابق في فيتنام: الانبهار بالقوة، خاصة حين تكون موجهة أو مضادة لبلاده التي يرى في سياساتها أصل شرور العالم.

في المعركة بين الطغيان والحقيقة، لا ينبغي للفنانين أن يكونوا على جانب الطغاة، هذا ما يؤكد عليه الأديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين في خطاب تسلمه جائزة نوبل في الآداب لعام 1970 بقوله: "والخطوة البسيطة التي يقوم بها رجل شجاع ليست المشاركة في التزييف، وليس دعم الإجراءات الكاذبة". وبالنسبة للفنانين الذين يعيشون في مجتمعات "حرة"، فإن الامتناع عن تقديم هذا الدعم للأنظمة القمعية يتطلب الضمير أكثر من الشجاعة. أوليفر ستون كان دائماً موضع احتفاء من قبل كثيرين، غالباً لأنه معادٍ صريح لسياسات بلاده، ولكن ماذا عن خارجها؟


كاسترو

 في أوائل 1980 ذهب أوليفر ستون إلى الاتحاد السوفياتي وأوكرانيا وجورجيا من أجل إجراء بحوثه لإنجاز فيلم (لم يكتمل) عن أحد المنشقين يدعي ديفيانس. ويبدو أن ستون كان متعاطفاً مع المنشقين السوفيات فأحضر لهم أجهزة راديو وغيرها من السلع الممنوعة في ذلك الوقت، ولكن سرعان ما تعطل الأمر إذ اُحتجز لبضع ساعات في جورجيا بعد أن أبلغ عنه أحد الأشخاص الموكل إليهم بمرافقته. الأمر يبدو معكوساً حين يتعلق الأمر بكوبا، إذ يتضامن ستون مع المضطهِد وليس المضطهدين.

لم يقدّم ستون فيلماً واحداً عن فيدل كاسترو بل فيلمين، وفي كليهما حاول تقديم صورة إنسانية لقائد الثورة الكوبية، صورة مغايرة عما اعتاده الجمهور الأميركي عنه بصفته ديكتاتور شعبوي. لا يخفي المخرج تعاطفه مع موضوعه، بل يصل الأمر إلى مرحلة افتتان بذلك "القائد" الملهم. "القائد" هو عنوان الفيلم الوثائقي الأول الذي حققه ستون عن كاسترو في 2002، قبل أن يعاود في العام التالي بجزء ثانٍ بعنوان "البحث عن فيدل"، ضمن سلسلة وثائقية تليفزيونية ممتدة تحمل اسم "أمريكا السرية". "البحث عن فيدل" جاء مصحوباً بدعاية تقول عنه أنه يحمل نظرة انتقادية لكاسترو مختلفة عن الخطاب الاحتفائي في الفيلم السابق، وهو الفيلم الذي تأجل عرضه حينها على شاشة محطة "إتش بي أوه" الأميركية بسبب سجن 80 ناشطاً كوبياً في مجال حقوق الإنسان لمدة 20 عاماً أو أكثر، ولكن الفيلم جاء بنبرة مشابهة لسابقه.

جانب كبير من سرّ ولع ستون بكاسترو يظهر في فيلم "البحث عن فيدل"، المتمحور بالأساس حول الزعيم الكوبي وعلاقته الشائكة بالولايات المتحدة الأميركية. في مشاهده الافتتاحية، نتابع عرضاً لبعض التعليقات التي بثها التلفزيون الأميركي في 1959 مع انتصار الثورة الكوبية وإطاحتها بالديكتاتور باتيست، حليف واشنطن، وبعد ذلك يسعى الفيلم لرسم صورة إنسانية لـ"قائد الثورة الذي لا يضمر شراً للأميركيين". يقول كاسترو إن هناك جملة مقدسة كررها كافة الرؤساء الأميركيين على مسامع مواطنيهم ليصيبوهم بالفزع: "كاسترو خطر على الأمن القومي"، ثم تظهر على الشاشة صور تلفزيونية لرؤساء أميركيين، كينيدي، نيكسون، ريغان، بوش الأب، كلينتون، وبوش الابن، وهم يرددون الجملة نفسها التي قالها كاسترو. صورة كاسترو كخصم صمود وعنيد أمام قوة أميركا الباطشة المغرورة هي ما يستفز خيال ستون، اليساري الأميركي، وهو الأمر نفسه الذي يصحّ قوله على رؤيته لهوغو شافيز وفلاديمير بوتين.

بعيداً عن أميركا ومؤامراتها وصمود القائد الكوبي أمام محاولات "تركيع" بلاده، يحاول ستون تصدير صورة ذاتية عنه كمحاور متوازن فيطرح خلال جلساته الطويلة مع كاسترو قضايا حقوق الإنسان ويضمّن حديثه ملاحظات موجزة لمعارضين كوبيين، مثل أوزفالدو بايا وفلاديميرو روكا وإليزاردو سانشيز، ولكن قلبه ليس هنا بكل تأكيد، فقبل ذلك ببضعة شهور صرّح ستون نفسه بأن كاسترو من أكثر الناس حكمة في العالم. ولكن الأفدح يأتي حين يظهر كاسترو مع 8 رجال اتهموا بمحاولة خطف طائرة للهرب من كوبا، فيسألهم ستون إن كانوا يعاملون معاملة جيدة في السجن، فيردون بالإيجاب، ثم يسألهم عن أسبابهم لمغاردة كوبا فيردون جميعهم بأنها أسباب اقتصادية. بعد ذلك يطلب المتهمون أحكام بالسجن لمدد طويلة لأنفسهم، ليأتي الدور على كاسترو لتقديم "الإفيه" الختامي في تلك الفقرة حين يحث محاميهم على بذل قصارى جهدهم للحصول على عقوبات مخفضة!

الصورة التي يظهر عليها الناشطون الحقوقيون والمعارضون في الفيلم أقل ما يقال عنها أنها شبه مهزومة، دون محاولة من المخرج لتقديم خلفية عن مقدار ما عانوه من أجل ما يعتقدونه. فمن لا يألف رؤية المعارض الكوبي أوزفالدو بايا (قضي في حادث سير مريب في 2012)، لن يعرف أنه عانى العمل الجبري بين عامي 1969 و1972 لمعارضته الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا في آب 1968 (الذي دعمه كاسترو). لن يعرف المشاهدون إليزاردو سانشيز الذي طُرد من جامعة هافانا لمعارضته الغزو السوفياتي وسُجن، من بين أوقات أخرى، من عام 1980 إلى 1985 بتهمة "الدعاية للعدو". لن يعرف المشاهدون فلاديميرو روكا الذي قضى الفترة من 1997 إلى 200 في السجن وأكثر من عامين في زنزانة "تشبه قفصاً مخصصاً للحيوانات المفترسة".

وكما لاحظ المعارض الكوبي أوزفالدو بايا بعد أن أجرى ستون مقابلة معه: "أعتقد أنه يحمل فهماً خاطئاً للغاية حول ما يجري في كوبا. لقد كان مهتماً بحياة المحبوب فيدل كاسترو أكثر من اهتمامه بما يحدث لـ 11 مليون مواطن كوبي. في الفيلم، يسأل ستون: لقد كنت في السلطة..؟"، ليقاطعه كاسترو: "أنا لست في السلطة. الشعب هو من في السلطة"، فلا يحاول ستون متابعة سؤاله أو حتى السؤال عن الكيفية التي يمكن للناس أن يكونوا في السلطة في نظام الحزب الواحد، حيث تعتبر جريمة أن تنتقد الرئيس وموظفيه، أو النظام الاشتراكي، أو أن تنظم مظاهرة، أو أن تفتتح وسيلة إعلامية مستقلة أو أن تسافر خارج كوبا دون إذن رسمي، بينما الشرطة السرية وكتائب التدخل السريع شبه العسكرية ولجان الدفاع عن الثورة تسحق المعارضين. وعندما يقول كاسترو في وقت لاحق لمحاوره: "دعنا نحترم وجهات نظر بعضنا البعض"، فإن المخرج الأميركي لا يسأله عن السبب وراء معاناة كثير من الكوبيين من أحكام طويلة بالسجن، فقط لأنهم عبّروا عن وجهات نظرهم وسعوا إلى تكريس ذلك الاحترام للمواطنين.

بعد انتهاء المخرج الأميركي من مقابلاته في هافانا، نشرت الصحف العالمية خبراً جاء فيه أن الرئيس الكوبي ودّع المخرج الأميركي في مظهر حفاوة لا يحظى به عادة سوى رؤساء الحكومات الزائرين، حيث اصطحبه إلى مطار هافانا في نهاية رحلته التي استمرت أسبوعاً والتي قيل إن الاثنين قضيا خلالها وقتاً طويلاً في التعرف على بعضهما البعض والعمل في الفيلم. وبعد وفاة فيدل كاسترو بأسبوع تقريباً، صرّح ستون بأنه الزعيم الوحيد الذي يتذكره باعتزاز، لأنه " قائد عظيم أنجز الكثير للشعب الكوبى. جلب لهم ثورة غيرت حياتهم، وقاتل عملاقاً أميركياً لمدة 60 عاماً. إنه يرمز الى الاستقلال".

 عرفات

2002. ياسر عرفات تحاصره دبابات جيش الاحتلال الإسرائيلي في رام الله. أوليفر ستون يقرر السفر إلى الرئيس الفلسطيني ومقابلته ضمن حملة الدروع البشرية لحمايته. أخبار تفيد بقلق إسرائيلي من الفيلم الذي سيعده المخرج الأميركي عن الرئيس الفلسطيني. صحيفة عربية تقول أن نائب القنصل الاسرائيلي في لوس أنجلس تكلم مع أحد المقربين من ستون وفهم أن الفيلم يمتدح عرفات ويظهره كأحد أبطال العصر وينتقد إسرائيل بشكل لاذع بسبب ممارساتها ضد الفلسطينيين. هذه مقدمات مشروع سينمائي مثير وجاد وغير معتاد تماماً على مشاهير السينما الأميركية. ولكن ما الذي حدث فعلاً في الفيلم؟

"شخص غير مرغوب به"، وهو عنوان الفيلم الذي أنجزه ستون عن عرفات وهو فيلمه الثاني في سلسلة "أميركا السرية"، ينطلق من رؤية غير صحيحة أساساً للمسألة الفلسطينية، بتصوير الأمر كصراع متكافئ بين طرفين يتجاذب كلاهما كفة الانتصار، أو حتى كعدوين متجاورين أنهكما الصراع وافقدهما القوة. كيف يفعل ستون ذلك؟ يختصرالسياسة الفلسطينية كلها في شخص ياسر عرفات، وبالمثل يختصر الشعب الفلسطيني في ذلك المقاتل الشاب الملثم من كتائب شهداء الأقصى الذي يدير معه حواراً. هذا الفصل الغريب بين مكونات الشعب والفعل الفلسطيني والسياسة الفلسطينية لن يجده المشاهدون في الجانب الإسرائيلي، حيث سيتابعون منظومة متكاملة من السياسة الإسرائيلية تأتي بها كلمات شيمون بيريز وبنيامين نتانياهو وإيهود باراك على التوالي، عندما يقدّم كل منهم رؤيته لفلسطين التي يقف في مركزها عرفات كمفاوض مراوغ وعدو للسلام إلى آخر تلك الأكاذيب الإسرائيلية. بالطبع أفظع الاتهامات بحق عرفات تأتي من جانب نتانياهو، في الوقت الذي يجيد باراك لعب دوره كحمامة سلام أعطى للفلسطينيين ما لم يحصلوا عليه من قبل، أما بيريز، الحكيم الإسرائيلي اللئيم، فيقتبس كلمات نزار قباني ليؤكد أن العرب لا يجيدون سوى الكلام. في الأثناء، تلتقط الكاميرا صورة من الشوارع العربية المنكسرة ثم تلصق عليها صورة لراقصة شرقية، ربما ليؤكد بها المخرج كلام بيريز.


ولكن الأهم، أن كل ذلك يحدث وعرفات لم يظهر على الشاشة بعد، لأن الفيلم يخبرنا مراراً وتكراراً أنه "مشغول دائماً". تركيز المخرج على عرفات كممثل وحيد لفلسطين والسلطة الفلسطينية ليس أدل عليه من أنه في أثناء رحلة طاقم العمل لمقابلة عرفات لم يفكر المخرج ولو للحظة في إجراء مقابلة مع ياسر عبدربه الذي طلب وساطته لمقابلة الرئيس الفلسطيني، وحتى عندما تمكن من مقابلة عرفات وذهب إلى مكتبه ليجد معه بعض الزوار وأعضاء الحكومة الفلسطينية، لم يفكر مرة أخرى في إجراء حوار مع أي منهم. هل هو الانبهار بالقوة الرمزية، حتى وإن كانت لزعيم فلسطيني حاصرته الدبابات الإسرائيلية قبل شهور في مشهد مذل؟ في أفضل الحالات ستكون الإجابة نعم، وفي أسوأها سيكون تمسك الفيلم بظهوره وحده أمام صقور إسرائيل نقطة إدانة بحق الفيلم، لأنه اختصار مخلّ ومؤشر على رغبة صناعه في تقديم صورة جاهزة ومسبقة عن الوضع في الأراضي المحتلة.

إجمالاً، يدشّن ستون فيلمه من منطلق منحاز لإسرائيل كدولة متفوقة و"مبهجة" وتقدّر قيمة الحوار، في مقابل العرب المتخلفين الكئيبين الذين لا يولونه الاهتمام اللازم (هناك انطباع مسرّب في الفيلم عن تذمر ستون من عدم تقدير الرئيس الفلسطيني له بعد الصعوبة التي واجهها لمقابلته). ومثلما يقول المثل الإنكليزي، المنتصر يقف لوحده بينما المهزومون يتداعون سوياً، نرى على الشاشة انقساماً فلسطينياً لا يستطيع الصمود أمام التوافق الإسرائيلي، يمرّ عبر كاميرا لا تلتفت إلى فداحة الدمار الحاصل إلا لتؤكد ما يقوله المنتصرون.

 

 ‏شافيز

في أيلول 2009 كان الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز قد أنهى لتوه زيارة لصديقه الإيراني محمود أحمدي نجادي، الذي فاز قبل ثلاثة أشهر بفترة رئاسية ثانية أعقبتها احتجاجات واسعة على خلفية اتهامات بالتزوير. في طريق عودته إلى فنزويلا، توجه شافيز إلى مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي ليحضرعرضاً مسائياً لفيلم أوليفر ستون الجديد "جنوب الحدود"، الذي احتل فيه مساحة كبيرة رفقة عدد من رؤساء القارة الأميركية الجنوبية. الفيلم يعتبر تنويعاً آخر على مشكلة ستون مع الإدارة الأميركية، فهو يقدّم شافيز كزعيم للقارة اللاتينية، إضافة إلى تأكيده على وقوفه الصلب بمواجهة سياسات بوش الابن في جميع أنحاء العالم. قبل عرض الفيلم، صرّح ستون لوكالة أسوشيتد برس بأن "الفيلم يدور حول روح التغيير فى أميركا الجنوبية. إنه يحاول الإمساك بروح ذلك الشيء، الذي هو بصراحة ضخم ... هناك شيء يجري هنا، وهو خارج صندوق النقد الدولي، إنه خارج السيطرة الاميركية، وهذا ما يهمني".


 مرة أخرى تكمن المشكلة في المنطلق الذي يبدأ منه السينمائي عمله، ففي "جنوب الحدود"، الذي شارك في تأليفه الكاتب الإنكليزي الباكستاني الأصل طارق علي، يؤكد ستون على رؤيته للسياسة الخارجية لبلاده التي تقسّم دول أميركا الجنوبية إلى دول صديقة يفعل قادتها ما تخبرهم به، ودول مارقة لا يتورع قادتها عن مخالفتها دائماً. من هذا المنطلق، فإن كل ما سيلي طوال الفيلم هو مولود طبيعي لتلك البذرة في دماغ صاحبها. الكأس إما فارغة (الولايات المتحدة وذراعها المصرفي العالمي ممثلاً في البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي) أو ممتلئة (هوغو شافيز و"رفاقه"من رؤساء دول أميركا الجنوبية). يمدّ ستون إدراكه ثنائي الأبعاد لهيكل الفيلم نفسه، فالنصف الأول منه يركز على شافيز والثاني على باقي رؤساء أميركا الجنوبية الذين يميلون إلى مواجهة الولايات المتحدة، وهم: البرازيلي لولا دا سيلفا والباراغوياني فرناندو لوغو والإكوادوري رافائيل كوريا والأرجنتينية كريستينا فرنانديز دى كيرشنر والبوليفي إيفو موراليس والقائد العجوز راؤول كاسترو. القائد الإشتراكي الوحيد المفقود هنا هو دانييل أورتيغا رئيس نيكاراغوا، الذي جاء إلى الحكم بعد أن منع معارضيه الرئيسيين من الترشح في الانتخابات وألغي إشراف المراقبين على عمليات التصويت.


في كل خطوة على الطريق، سيكون ستون إلى جانب شافيز، وأحياناً يكون "شافيزياً" أكثر من شافيز نفسه، فهو يجعل فيلمه ساحة دفاع ودعاية لشافيز، بل ويدعو الأميركيين لاستلهام ثورة سلمية على طريقة شافيز، الذي أحدث "كل ذلك التغيير الرائع في فنزويلا". وفي حديثه وأسئلته الموجهة لـ"بطل التغيير في أميركا اللاتينية"، لا يثير المخرج الاميركي أياً من تلك القضايا الجادة والاتهامات الخطيرة التي لخّصها تقرير منظمة العفو الدولية عن فنزويلا في 2008، حيث جرت هجمات واسعة النطاق على الصحافيين ومضايقات شديدة لعمل الحقوقيين وإضرابات جماعية عن الطعام في سجون البلاد احتجاجاً على ظروف الاحتجاز. بل إنه يختار الحديث عن انتخابات 2006 التي فاز فيها شافيز بولاية ثالثة، ويخبر المشاهدين بأن 90% من وسائل الإعلام كانت تعاديه، ورغم ذلك استطاع تأمين الفوز. "هناك درس يجب تعلمه"، يقول ستون.


ومثلما حدث مع كاسترو من قبل، سيظهر شافيز في الفيلم كشخص محبوب ومرح ويأكله الحنين إلى أيام طفولته في منزل عائلته، وذلك إلى جوار الوجبة القياسية المعتادة لكل قادة اليسار اللاتينيين التي يدلي فيها بأفكاره حول الاشتراكية وسيمون بوليفار وضرورة التصدي لهيمنة الولايات المتحدة على العالم، وغيرها من الأمور التي لن يشكّل ستون عائقاً أمام استرسالها. لكن الأمر لا يسير بصورة مثالية في كافة الحالات، بل يذهب أحياناً إلى منطقة الكوميديا السوداء: في أحد المشاهد، يطلب ستون من الرئيس الفنزويلي أن يركب الدراجة التي اعتاد ركوبها طفلاً، يعتلي شافيز الدراجة الصغيرة ولا يكاد يتحرك بها حتى تتكسّر الدراجة تحت تأثير وزنه، فينفجر في الضحك. والحقيقة أن علاقة شافيز بالمخرج الأميركي لم تخل من الكوميديا يوماً، ففي منتصف 2006 أعلن ستون أنه لن يخرج فيلماً عن الإنقلاب الذي وقع في فنزويلا عام 2002 نافياً بذلك ما أعلنه الرئيس الفنزويلي قبلها بأيام قليلة في حديثه الأسبوعي للتلفزيون الرسمي. ويبدو أن شافيز كان يضع فيدل كاسترو نصب عينيه ويريد مساواته في عدد الأفلام التي أنجزها أوليفر ستون عنه، فقد صرّح في 2010 بأن ستون يعدّ جزءاً ثانياً لسيرته الذاتيه سيتناول فيه "ثورته البوليفارية" وصعود التيار اليساري في أميركا اللاتينية، قبل أن يخرج المخرج الأميركي لينفي ذلك.

 

كيف وصلنا إلى مقابلات بوتين؟

في 2014 أعلن ستون عن مشروع لإنتاج فيلم عن الثورة الأوكرانية التي أطاحت بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. على صفحته في فيسبوك، نشر ستون صورة له مع الرئيس المخلوع الذي هرب إلى روسيا، ولم ينس اتهام الاستخبارات الاميركية بالوقوف وراء المجموعات التي قادت تظاهرات "ميدان" وسط العاصمة الأوكرانية كييف. بقية القصة يمكن توقعها: تمسّك ستون بأن يانوكوفيتش هو الرئيس الشرعي للبلاد، وأعلن أن الأمر كله مؤامرة أميركية، وأن "طرفاً ثالثاً" هو من قتل المتظاهرين ورجال الشرطة، وأشار إلى احتمال دسّ بعض العناصر الأجنبية في صفوف المتظاهرين من قبل المخابرات الأميركية. تلك الباقة السابقة من الادعاءات واليقينيات التي أوردها أوليفر ستون بخصوص الثورة الأوكرانية لا تختلف في شيء عما ردّده نظام حسني مبارك ومؤيدوه بشأن ثورة 25 يناير في مصر، وهو ما يجعل الرجل في موقف بائس لا يحتمل  معه سوى الإعلان عن حالة مستعصية من الاستعماء أوالخلل الفكري، الذي يؤدي بأشخاص يُفترض بهم تغليب الحسّ النقدي والقراءة الموضوعية للأحداث إلى اتخاذ مواقف مضلِلة تتخندق إلى جانب السفاحين وتلامذتهم.


اكتفى ستون بإنتاج ذلك الفيلم عن يانكوفيتش والظهور على أفيشه، على يساره فلاديمير بوتين ومن وراءه يانكوفيتش، ولكن بعد عامين من ظهور"أوكرانيا على النار" كان العالم على موعد مع فيلم من إخراج ستون نفسه عن شخص آخر احتضنته موسكو ليقيم على أراضيها. "سنودن"، الذي خرج الكرملين نفسه وقدّم "ريفيو" عنه، على لسان المتحدث الرسمي باسم الكرملين قال فيه "إنه فيلم ذو جودة عالية مع نص رائع، والأكثر أهمية أنه فيلم وثائقي. هذه فرصة ممتازة لكي يعرف الناس ما حدث فعلاً"."سنودن" مثال آخر على الطريقة التي يقارب بها ستون مواضيعه من الزاوية الضيقة للغاية المتعلقة بمدى معاداة أو اقتراب الأشخاص من السياسات الرسمية الولايات المتحدة الأميركية، فإدوراد سنودن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الذي اتخذ من روسيا ملجأً له، بعد عروض أخرى من فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، يظهر في الفيلم كناشط حقوقي وسياسي مضطهد في بلاده لأنه كشف أسرارها الخبيثة وانتهاكاتها بحق الحريات الفردية، بينما تلك الاتهامات نفسها يمكن بأريحية تامة إلصاقها بالنظام الروسي الذي يحتمي به سنودن. لا يأتي ستون على ذكر ذلك، ولا يلمّح له أساساً، ربما لأنه كان في ذلك الوقت نفسه يزور فلاديمير بوتين في مكتبه الرئاسي ليحكي له حكايات مشوقة.


قبل أسبوعين تقريباً، هاجت وسائل الإعلام الاميركية بعد عرض شبكة شوتايم لسلسلة تلفزيونية من أربع حلقات بعنوان "مقابلات بوتين" من إخراج أوليفر ستون. مقالات وتقارير إخبارية ومقابلات وبرامج تحدثت عن كم من الأكاذيب والدعاية المضادة التي تضمنتها المقابلات "الممنتجة"، بأسلوب يذكّر بأيام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وأشار بعضها إلى عمل ابن المخرج في شبكة "روسيا اليوم"، الذراع الإعلامي للنظام الروسي، ولكن الحقيقة أن لقاء بوتين بأوليفر ستون ليس سوى محطة وصول مألوفة ومتوقعة للغاية، بالنظر لمسيرة المخرج الأميركي الحافلة بسوابق دالة ومؤكدة على ارتمائه في أحضان كل من يقف في وجه الغطرسة الأميركية (من غير العرب طبعاً).لا يخفي ستون في أحاديثه الصحافية إعجابه بالرئيس الروسي معتبراً إياه من أهم الشخصيات القيادية والمؤثرة في العالم، خصوصاً وأنه "يتميز بصراحة بالغة وكلامه مباشر وواضح وهذا سيساعد على إيصال وجهة نظره إلى الغرب وأميركا".


"مقابلات بوتين" لن تحيد عن هذا الخط الأساسي الذي يتضمنه كلام ستون، فالمشاهد سيكون على موعد مع 6 ساعات من الملل الخالص، ربما يحمل الجزءان الأخيران منها شيئاً من الجاذبية، ولكن العمل بأكمله عبارة عن دعاية روسية من الطراز العتيق تتألف من توضيحات وتكذيبات واتهامات و"إنسانيات". في بداية "المقابلات"، يظهر بوتين أثناء تريضه في إحدى الحدائق، يلعب الهوكي، يداعب الخيول، ثم يحاول ستون أن يبدو بمظهر المحاور الشرس فيقول أنه سيشجع الرئيس الروسي على المضي في إجاباته بإعطائه "أذناً متعاطفة"، ليسأله عن أشياء كثيرة بعد أن يرتّب جيداً كلماته والزاوية التي سيطرح من خلالها سؤاله، أسئلة عن وول ستريت ودورها في تدمير الاقتصاد الروسي، والحرب في روسيا، والصراع الأوكراني، والحرب في جورجيا والتدخل في الانتخابات الأميركية، وإدوارد سنودن، وحقوق المثليين، والنساء، وحلف شمال الأطلسي، وغيرها من الأمور التي تكاد إجاباتها تكون محفوظة ومعروفة مسبقاً، وكأن "الأذن المتعاطفة" كانت هناك من دون صاحبها، أو أن صاحبها لم يرد إزعاج محاوره بالأسئلة الصعبة قليلة الذوق ليتيح له الفرصة كاملة للرد على افتراءات الغرب بحقه.

الأكيد أن أوليفر ستون كان سعيداً للغاية في السنتين التي قضاهما في التردد على بوتين لإجراء تلك المقابلات، ثمة شيء من الزهو يمكن الإحساس به في حديث المخرج الأميركي، لقد قابل فتى أحلامه أخيراً.

 

أخيراً

في واحد من الأفلام الأمريكية الحديثة، تتوقف النادلة أمام أحد الزبائن وقد انعقد لسانها والتصقت يداها بصدرها، غير مصدقة أنها تقف وجهاً لوجه، أمام هذا الرجل الذي لا تكفّ محطات التلفزيون عن نشر صورته في واحدة من القضايا الكبرى باعتباره المشتبه الأول في سلسلة من جرائم القتل التي ارتكبت بحق نساء. ثم تنفرج ملامح الفتاة وتسأله: "هل أنت الذي يبثون صورتك في محطات التلفزيون فعلاً؟"، فيرد عليها بالإيجاب، دون اهتمام،فتقول له: "هل باستطاعتي الحصول على توقيعك؟".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها