الجمعة 2017/06/09

آخر تحديث: 14:20 (بيروت)

بعد 25 عاماً على اغتياله.. أين كُتبُ فرج فودة؟

الجمعة 2017/06/09
بعد 25 عاماً على اغتياله.. أين كُتبُ فرج فودة؟
تنامي تيارات الإسلام السياسي كان نتيجة لأزمة الديموقراطية
increase حجم الخط decrease
في كتابه "نكون أو لا نكون"، الصادر عام 1990، كان المفكر الراحل فرج فودة، يظن أن ما فعله وجيله، ممن اعتبرهم كتاب الموجة الثانية من التنويريين في مصر، قد مهّد طريقاً "أكثر حرية وانطلاقا وتفتحاً" لمن سيأتي من بعدهم. وربما دفعه ذلك التفاؤل والثقة في المستقبل أن يقول في الكتاب ذاته، إنه "من حقنا عليهم أن نذكرهم، أنهم مدينون لنا بهذا المناخ، وسوف يكتشفون عندما يقلبون أوراقنا ونحن ذكرى أننا دفعنا الثمن". غير أنه من المؤسف القول إن فودة والذين جاؤوا من بعده يدفعون الثمن لواقع لا يتغير، بل يعود أدراجه إلى الخلف.

وربما للسبب ذاته، أدرك فرج فودة، الذي اغتالته أيدي الإرهابيين قبل ربع قرن، أن الاتجاهات المتطرفة والاستبدادية، قد خلقت جواً من الإرهاب الفكري السياسي، جعله يعتبر أن القضايا التي طرحها المفكرون المصريون في العشرينات لم يجرؤ مفكر على أن يطرحها في وقته. وهو ما قد نكرره اليوم إذا نظرنا إلى ما قدمه فودة، خلال مشواره الفكري في الدفاع عن مدنيّة الدولة المصرية. بل قد نضيف إلى الجرأة، التي اتسم بها مشروعه الذي ضم نحو 12 كتاباً، قدرته على التبصر في مآل الكثير من القضايا التي خاض فيها وحذر من توابع إهمالها.

فقد رأى فودة على سبيل المثال، أنه على الدولة المصرية صنع تحالف إفريقي مع دول حوض النيل، وأن انتمائها الجغرافي إلى القارة السمراء يمكن أن يكون بمثابة المنقذ لاقتصادها المترنح، وأن انفصال السودان الذي كان يلوح في الأفق وقتها، سيكون مدخلاً لأزمات أخرى، مثل أن "يساعد على إنشاء سدود على النيل في أية دولة من دول المنبع"، حسبما ذكر في كتابه "حتى لا يكون كلاماً في الهواء"، الذي صدر قبيل اغتياله في العام 1992. وهو الأمر الذي يتحقق اليوم في الخطوات التي تتخذها الدولة الإثيوبية لبناء سد "النهضة"، وهي واحدة من دول المنبع.

كذلك، فقد ذهب صاحب "النذير"، إلى أن تنامي تيار الإسلام السياسي كان نتيجة لأزمة الديموقراطية التي تعيشها المنطقة منذ منتصف القرن العشرين، إذ "تُسلّم زمام كثير من بلدان المنطقة إلى دائرة مفرغة، تبدأ بالانقلابات العسكرية التي تفشل في حل المشكلات، وتنجح في تفريغ المجتمع من القيادات المدنية المؤمنة بالشرعية، وتنجح أيضا وهذا هو الأهم، في ترسيخ مفاهيم إهدار الشرعية الدستورية تحت شعارات فضفاضة من نوع (الشرعية الثورية) و(الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب)… هذا النمط من الحكم هو السبب في نمو وتعاظم التيارات السياسية الدينية". والذي سينتج عنه بالضرورة مثلما يقول في الكتاب ذاته: "دورة مفزعة، ففي غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية، ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الانقلاب العسكري، الذي يسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر إلى سلة دينية جديدة وهكذا".

وليست تلك القضيتان وحدهما، من حققتا ما حذر منه فودة، وإنما هناك عشرات الأمثلة تزخر بها كتبه التي انشغلت بنقد تيار الإسلام السياسي، والذي أظهر فودة خواءه من أي مشروع أو أسس فكرية، بالإضافة إلى دفاعه المستميت عن علمانية الدولة المصرية، وهو الأمر الذي دفعني للتساؤل عن مصير كتبه الـ12: الحقيقة الغائبة، زواج المتعة، حوارات حول الشريعة، الطائفية إلى أين؟، الملعوب، نكون أو لا نكون، الوفد والمستقبل، حتى لا يكون كلاما في الهواء، النذير، الإرهاب، حوار حول العلمانية، قبل السقوط. مشروع فكري مثل مشروع فرج فودة يجب إتاحته للشعب في وقت ترفع فيه الدولة شعارات "محاربة الإرهاب"، ما يعني بالضرورة توافر تلك الكتب وغيرها من الداعية إلى التنوير، جنباً إلى جنب في المكتبات العامة وعلى الأرصفة.

ذهبت أولاً إلى فرع مكتبة مصر العامة بحي الدقي، وهو فرعها المركزي والأكبر في القاهرة الكبرى، لأرى أياً من كتب فودة متاح فيها، وكانت المفاجئة غير السارة أنني لم أجد كتاباً واحداً يحمل اسمه في ذلك الفرع. فتخيلت أن الكتب قد تكون متاحة في أي من فروع المكتبة الأخرى، فبحثت على قاعدة بياناتها، المتاحة في الإنترنت لأعضائها، فلم أجد أياً من كتبه أيضاً.

وتوزعت كتب فودة بين عدد من دور النشر، أبرزها "الهيئة العامة للكتاب" و"دار المعارف" و"المحروسة" و"مكتبة مصر الجديدة" بالفجالة، كما أعادت ابنته في العام 2013، طبع 7 من كتبه على نفقتها الخاصة. الأمر الذي يوحي بأن كتب المفكر الشهيد، متاحة إما في منافذ بيع تلك الدور، أو لدى بائعي كتب الأرصفة.

ولأنني كنت أبحث عن الأماكن التي تستقطب القارئ العادي، لا المتخصص، لم أذهب إلى بائعي الكتب القديمة في سور الأزبكية، وإنما أثرت أن أمر على البائعين الذي يفترشون الأرصفة في الشوارع الرئيسة في منطقة وسط البلد، والذين يبيعون إما الكتب المزورة أو القديمة، وتقبل عليهم فئات مختلفة من القراء. غير أنني لم أجد لديهم ما أبحث عنه، لا كتب قديمة لفرج فودة ولا حتى مزورة، ولا طبعاً أياً من الكتب التي اصدرتها ابنته على نفقتها الخاصة.

فإذا كانت الطبعات القديمة التي صدرت في حياة فرج فودة، والتي مر على صدور آخرها نحو 25 عاماً، قد نفدت بمرور الوقت، فما مصير الكتب الجديدة الذي صدرت في العام 2013، هل نفدت هي الآخرى؟ وإن كان الأمر كذلك، لماذا لم تصدر الدولة طبعة شعبية من كتبه حتى اليوم؟

اتصلت بسمر فرج فودة، للاستفسار عن مصير أعمال والدها، فأكدت أن الطبعة التي أصدرتها منذ أربع سنوات لم تنفد بعد، لكنها تعاني أزمة في توزيعها بمفردها، ما دفعها للجوء إلى "الهيئة العامة المصرية للكتاب" لتوزيع الكتب ضمن منافذ بيعها، باعتبارها أكبر ناشر حكومي في مصر، ومالكة للعديد من منافذ البيع في المحافظات المختلفة. لكن الكتب باتت تواجه أزمة أكبر في التوزيع من التي واجهتها سمر عندما كانت توزع الكتب بمفردها.

تقول سمر فودة: "احتجت مدة طويلة للتواصل مع الهيئة العامة للكتاب من أجل توزيع الكتب ضمن منافذهم في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حتى إنني احتجت إلى واسطة للوصول إلى الدكتور أحمد مجاهد، رئيس هيئة الكتاب وقتها، فلجأت إلى الإعلامي توفيق عكاشة الذي اتصل بالدكتور مجاهد ليقبل بتوزيع الكتب، لكن هذه لم تكن آخر المشكلات". وتضيف: "عانت الكتب كثيراً من الإهمال، عندما شاركت بهم لأول مرة في معرض الكتاب عن طريق منافذ الهيئة، أرسلت إليهم بوسترين دعائيين للأعمال الكاملة، فأضاعوا واحداً وطمسوا الآخر، كما أنهم لم يقوموا بوضع الكتب في مكان ظاهر يساعد في الوصول إليها بسهولة، ووضعوا فوقها كتباً للأزهر. فمسؤولي البيع من موظفي هيئة الكتاب أصوليون لا يختلفون عن الدواعش في شيء، يطمسون كتب أبي ويرفضون بيعها لتخيلهم أنه كان يهاجم الإسلام. كذلك لم تتوفر الكتب في معرض الكتاب الأخير ولا تتوافر أيضاً في منافذ بيع الهيئة".

ولم تكن تلك المشاكل وحدها التي واجهت فودة مع "هيئة الكتاب"، إذ واجهت أزمة آخرى في الحصول على العائد المادي من بيع تلك الكتب، ما دفعها، حسب قولها، للجوء إلى حلمي النمنم، وزير الثقافة، وهيثم الحاج علي، رئيس هيئة الكتاب.

ومن جهته، أكد هيثم الحاج علي، في اتصال هاتفي، توافر الأعمال الكاملة لفرج فود في جميع منافذ الهيئة: "الكتب موجودة وتوزع ضمن منافذ الهيئة، وإذا حدث ولم تتوافر في بعض المنافذ فذلك معناه أن الكمية المتاحة لديهم قد نفدت، وسيزودون بأخرى فور إبلاغهم بالنفاد". وعن المتأخرات المالية، قال إنه اتصل "منذ أسبوعين بسمر فرج فودة للحصول على رقم حسابها في البنك لتحويل عائدات البيع إليها". وأشار إلى أن "هيئة الكتاب" تنوي إصدار طبعة شعبية من الأعمال الكاملة، ولكنها لا تستطيع القيام بذلك حالياً، إلا "بعد نفاد الطبعة الخاصة أولا، وأؤكد أننا بمجرد نفاد الكمية سنسعى للاتفاق مع ورثته لإصدار طبعة شعبية من الكتب".

ونظراً للتضارب الواضح ما بين التصريحين، قررت المرور على عدد من منافذ "هيئة الكتاب" الموجودة في وسط المدينة، باعتبارها أكثر الأماكن التي يرتادها المواطنون في العاصمة، بالإضافة إلى "معرض فيصل الدائم للكتاب" الذي تقيمه ضمن فعالياتها الثقافية في شهر رمضان. وبالفعل وجدت جميع الأعمال الكاملة متاحة في "المركز الدولي للكتاب"، وهو المنفذ الأكبر للهيئة في منطقة وسط البلد، من حيث المساحة ومن حيث عدد الكتب التي يحتويها. لكنني فشلت في إيجاد أياً منها في منفذين آخرين في المنطقة ذاتها، وواجهت الفشل ذاته في منفذ الهيئة في "معرض فيصل للكتاب" الذي يخلو من أي من أعمال فودة.

وبتوجيه السؤال إلى بعض المصادر في "الهيئة"، توصلت إلى أن غياب الكتب في بعض المنافذ لا يعني خلوها منها، بل قد يعود إلى أصولية العاملين فيها والذين يقومون بإخفاء تلك الكتب عن الجمهور ظناً منهم أن في بيعها وزر لأنها كتب تهاجم الإسلام.

ويُعرف عن العاملين في هيئات النشر والطبع الحكومية تلك المسألة، إذ تسيطر الأفكار المتشددة على عدد كبير منهم، وبخاصة عمال المطابع الذين لا يتورعون عن التدخل بحذف أي شيء يرون فيه خروجاً على الآداب العامة أو أي مساس بالأديان. في مكتبتي الخاصة طبعة من ألف ليلة وليلة، أعادت "الهيئة العامة لقصور الثقافة" إصدارها في العام 2010، عن طبعة قديمة تعود لعصر محمد علي، ويظهر فيها عدد من الألفاظ الجنسية إما مطموسة أو مكشوطة بفعل فاعل.

غير أن أزمة التوافر التي تواجهها كتب فرج فودة، ليست المسألة الوحيدة التي تؤرق عائلته. وتشعر سمر فرج فودة بالحزن لأن الدولة على الرغم من رفعها شعار "محاربة الإرهاب" لا تبدي اهتماماً بالدور الذي لعبه والدها، وتقول إن من حق فرج فودة على الدولة أن تطلق اسمه، على الأقل، على الميدان الذي اغتيل فيه "فأصغر عسكري يستشهد جراء أي عمل إرهابي يوضع اسمه على الشوارع، فكيف بواحد ضحى بحياته من أجل أن تصبح مصر دولة مدنية ومتقدمة لا يوضع اسمه على الميدان الذي اغتيل فيه".

ولا يبدو موقف الدولة المصرية مدهشاً من فرج فودة، الذي وصف موقفها هذا في كتابه "النذير" بالـ"فشل مضاعف للدولة"، حين تعلن أنها تواجه "الإرهاب" في الوقت الذي لا تدعم فيه التيارات المدنية أو المحاولات التنويرية، بينما تتنامى التيارات الظلامية وتنجح في فرض أفكارها لدى السواد الأعظم من المواطنين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها