الأربعاء 2017/06/21

آخر تحديث: 10:39 (بيروت)

قدّيسو العراء في صُور جوسلين صعب

الأربعاء 2017/06/21
قدّيسو العراء في صُور جوسلين صعب
أصابت صعب حين حوّلت صورها بالأسود والأبيض إلى الألوان
increase حجم الخط decrease
لا تشترك الصور، التي تعرضها جوسلين صعب في معرضها "one dollar a day" (المركز الفرنسي)، في كونها ملتقطة بمجملها في أرجاء احد مخيمات اللاجئين السوريين في البقاع اللبناني فحسب، بل بأنها تدور حول موضوع محدد، وهو الخيم المشيدة باللافتات الإعلانية. ذلك، أن اللاجئين قد عمدوا الى بناء خيمهم بتلك اللافتات، مشكلةً، وبالظاهر عليها من أمر دعائي، جدرانها وسقوفها. لاحظت صعب كيفية التشييد هذه، ولاحظت أنها تستلزم التوقف الفوتوغرافي عندها. 

وهكذا تجمع بين طرفين، ارتباطهما ليس مألوفاً. فمن جهة، هناك الخيمة، بوصفها "بيتاً" هشاً، ومن جهة أخرى، هناك اللافتة الإعلانية، باعتبارها اشهاراً تسويقياً لسلعة ما. اللجوء، وعلى سبيل انتهائه في إقامة مؤقتة، قرّب بين الجهتين، مستعيناً بالثانية لتكوين الاول، ولهذا، سحب اللافتة من سياقها الدعائي، وادرجها في سياقه، لتصير غلافاً يحيط بسكانه. بالتالي، لم تعد اللافتة على حالتها الوظيفية الأساس، أي لم تعد تلفت لكنها، تلف مجموعة من الركائز الخشبية أو الحديدية، وبدلاً من أن تكون مرفوعة في الطرق، ها هي منصوبة مع تلك الركائز في العراء.

ومع هذا، لم تفقد اللافتة، وفي نتيجة موقعها الجديد، اثرها الذي لا يريد جذب العيون نحوها، بل يريد ان يتوافق مع الساكنين تحتها، والواقفين حولها، أي اللاجئين. وبذلك، تبدو اللافتة متمردةً على جمهورها، لا تشدهم صوبها بقدر ما تذهب بهم، تبعدهم عنها، لتتخلص منهم، فهي لا تريد الترويج لأي شيء، غير أنها تريد التحول الى كساء. من إعلانات الثياب، الى ساعة اليد، مروراً بالغسالة، والإعلان عن إحدى الحفلات، بارحت اللافتة دورها لتؤدي آخر، تقاوم به جمهورها، مثلما تخفض من قيمة المعروض فيها من منتجات على أنواعها.
 

أما، اللاجئون، وكلهم أطفال، فحين يظهرون بقرب اللافتة، لا يعيرون لحالتها الأساس أي نظرة، فهم ليسوا جمهوراً من المستهلكين، بل نازلين في العراء، في الأصل، وهذا أحد معاني "الخيمة". لقد جلبوا اللافتة من دنيا مأهولة بجمهور لا ينتبه إليهم، وإذا انتبه فبعد اعتقاده بأنهم سلع. جلبوا اللافتة من تلك الدنيا، وضعوا اليد على محركها الانتباهي، معطّلينه، ليصبح ملازماً لهم، ليصبح في متناولهم، وبعد ذلك، وبحسبما ترينا صعب في إحدى صورها، ضحكوا على الجمهور اياه: "أنتم يا سكان الدنيا الاستهلاكية، تحرككم الدعاية، ونحن نأخذها، ونحركها، نستخدمها في بناء بيوتنا، الهشة صحيح، لكنها على الأقل ليست وهمية".

اصابت صعب حين حوّلت صورها بالأسود والأبيض إلى الألوان، فتحويلها ليس مفصولاً عن ضحكة اللاجئين الطفولية هذه. النسخة الملونة من الصور تجعلهم محاطين بلطخات ذهبية وزرقاء وبنية، تجعلهم قديسين. اللاجئون قديسون، نعم، لأنهم، أولاً، وعلى الرغم من كل القساوة التي تطبع وجودهم، ما زالت على وجوههم ملامح الدهشة والسرور، ولأنهم، ثانياً، يسكنون دنيا، السماء فيها قريبة من الارض بطريقة لا تنفي العراء. سماء رحبة، وأرض حرة، وعراء يجري التشييد فيه باستخدام حطام الدنيا المقابلة، دنيا الجمهور، حطامها الذي يحركها، ويثير العيون فيها لتنغلق أكثر فأكثر على وهمها: دنيا القديسين هي دنيا حية، سائرة، سماوية وأرضية، لأنها "أصلية". دنيا، الأحياء فيها، وهم بُناتها، ينظرون، وحولهم هالة من القداسة، ينظرون، ولا ينتظرون من أحد شيئاً.

تؤكد جوسلين صعب، عبر صورها التوثيقية في شكل رسوم ملونة، أن اللافتة، ولما لا تعود تلفت، بل تلتف على ركائز ترفعها بيتاً، ولما لا تجذب الجمهور، بل تشجبه، ولما تستمد نورها من أجساد النازلين في العراء، لا من عيون سكان الوهم، قد تتحول الى أيقونةٍ، تخبر عن دنيا أخرى، عن دنيا قاسية، لكنها أصلية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها