الجمعة 2017/04/28

آخر تحديث: 11:18 (بيروت)

ماذا يحدث في زحمة السير؟

الجمعة 2017/04/28
ماذا يحدث في زحمة السير؟
إضراب أصحاب الشاحنات على طريق المطار (المدن)
increase حجم الخط decrease
قلة منا لم تعلق في زحمة السير التي تشهدها الطرقات في لبنان بسبب قطعها من قبل اصحاب الكسارات والمرامل والشاحنات، وقلة منا لم تتعرض لموقف محدد، منظره ومفاده هو وجودهم داخل سياراتهم، التي تهمد في مكانها، محاطةً بغيرها، فلا تتقدم، ولا تتراجع البتة.

بذلك، يتحولون من متنقلين بمركباتهم الى محبوسين فيها، ومن متحركين الى متجمدين، وقبل أن يستقر تحولهم على هذا الوضع، يعيشون لحظته القاسية، أي لحظة انقطاع جريانهم.

ففي حين تدفقهم، يبلغون رجاءً مسدوداً، وعندها، يرتد دفقهم عليهم، يمتلئون به، ولا يدركون كيف يتصرفون به، أو يصرّفونه، فيضيقون به، ويشعرون بضغطه عليهم. بالتالي، أول علوقهم هو نكوص دفقهم، رجوعه عليهم، واكتظاظهم به: في تصوّرنا أن سياراتنا ستواصل سيرها، لكنها، وفجأةً، تتوقف. ينهار تصورنا، ويعود دفقها فيه إلينا، فنزدحم به. علوقنا في الزحمة يبدأ بعلوق ذلك الدفق، دفق السيارات، فينا، كأنها، وبدلاً من أن تتحرك في الطرقات، تتنقل في أجسادنا، التي تضطرب وتسخن في إثرها.

ما أن يرتد دفق السيارات علينا، ونزدحم به، حتى نُصاب بالحمّى، التي تدفعنا الى الإستفهام، لا عن علتها، بل عن علة الزحمة ومآلها: "ماذا يحصل؟ هل هناك حادث؟". نفتش عن موضوع يقينا من الحمى، ويخلصنا منها، وغالباً، ما ينتدب شخصاً ما نفسه للقيام بهذه المهمة، فينزل من مركبته، ويتجه الى الامام، متنقلاً بين السيارات العالقة، هادفاً الى الوقوع على سبب الزحمة. إلا أننا، وحتى لو وجده لنا، لا نتخفف من الحمى، التي سرعان ما تتضاعف، وتشتد، حتى تتغير من حمى الإرتداد، إرتداد الدفق، إلى حمى الإرتعاد، ارتعادنا من جراء الدفق إياه.

نرتعد خوفاً من ماذا؟ من موتنا، من مظهره.. العالق. نخاف من انقطاع الحركة، من انقطاع الزمن، من توتر أجسادنا، نخاف من كل هذا الموت، الذي لا شيء ينبئ بتبدده. نفتح هواتفنا، ونحاول التقاط صور له، نتحدث مع أصحابنا "الأحياء"، وربما، نرفع صوت الموسيقى بعد أن نغلق النوافذ ونشغّل المكيف، وقد نعمد أيضاً إلى ممازحة العالقين بقربنا، ممازحة الميت للميت، أو المحتضر للمحتضر، وفي الوقت عينه، قد نعمد إلى التلاسن معهم، وإنزال رعدتنا بهم، تلاسن الميت أكثر مع الميت أقل منه، والمحتضر أكثر مع المحتضر أقل منه.

نحاول بشتى الطرق أن نبعد الموت عنا، الموت الذي سببه ارتداد الدفق علينا، إزدحامنا به، فبتلك الطرق، نجهد في تصريفه منا، كأن كل واحد منا بمثابة مرآب لسيارات تتدفق وتدور فيه، لكنها، لا تستطيع الخروج منه. ففي الزحمة، العالقون هم في مواقف لسيارات تختنق داخلها، من دون أن تعرف كيف يغادرونها، إنهم، وبعبارة أخرى، مواقف ميتة لسيارات مفرطة في حيويتها. فـ"الباركينغ الميت" هو ليس الفارغ من السيارات، بل الذي تتحرك السيارات داخله، إلا أنها لا تقدر على مبارحته، لأنه بلا منافذ، بلا بوابات.

لكي يقاوموا إرتداد الدفق عليهم، وإرتعادهم خوفاً من موتهم، يهذي العالقون، والملفوظ الأساس لهذيانهم هو: "تأخرنا". ذلك، حتى لو أنهم لم يتأخروا، فهم يحسون بأن هناك شيئاً ما ينتظرهم، هناك منتظِر مجهول لهم، ويتوجب عليهم أن يسرعوا في الذهاب والوصول إليه. ففي حال تأخروا عنه، سيثبتون له بأنهم موتى، "قادمون، نحن قادمون" يعني "لم نمت، نحن لم نمت". وهذا المنتظِر المجهول يأخذ أشكالاً عديدة: دوام العمل، المواعيد مع الصحب، المسلسل، الكنبة، وربما، بوست على "فايسبوك". فعلى كل هذه الأشكال، يلقي المنتظِر المجهول ظله، لتغدو مواضيعه، التي، ومن خلالها، ينادي العالقين في الزحمة.

وهؤلاء، ومن طرفهم، قد يشرعون في إطلاق الأبواق لكي يقولوا له بأنهم يسعون إلى الإنطلاق صوبه، أي تبديد موتهم، والتوجه نحوه، مثلما أنهم قد يشرعون في البحث عن مبرر لتأخرهم عنه، فيجدون هذا المبرر عبر شتم شرطي السير، والدولة، والأحزاب، والسياسيين، وربما، عبر شتم ذواتهم لأنهم قرروا التنقل في ساعة الذروة.

بسبب مناداة المنتظِر المجهول لهم، يكتشفون أن كل شيء حولهم مُعَدّ لكي يتأخرون عنه، ولكي يقترفوا "خطأ" التخلف عن ملاقاته، وعندها، قد يحملون البلد بأكمله مسؤولية هذا "الخطأ"، أو يلقون تلك المسؤولية على عواتقهم وحدهم، لكنهم، لاحقاً، قد يستسلمون:"لماذا لا نستخدم تقنية تحمل أخرى، لماذا لا نهدأ في أمكنتنا؟". يقبلون بموتهم، ويقولون للمنتظِر المجهول أن ليس في أيديهم أي حيلة. غالباً، وبعد القبول، يفتح السير، ويخرج دفق السيارات من أجساد العالقين، وإذا لم يحصل ذلك، يعودون إلى الشعور بالإرتداد والإرتعاد مرة أخرى، وبشكل متفاقم أكثر.

هناك رواية جميلة لجميس غراهام بالار بعنوان Concret Island، أو L'ile de Beton، بحسب ترجمتها الفرنسية (ضمن ثلاثية سردية معروفة بثلاثية الباطون). تدور الرواية حول حادث سير يتعرض له روبيرت مايتلند في ناحية من نواحي لندن، حيث تجنح سيارته على الطريق، وتقع في أرض سفلية، تتقاطع الأوتوسترادات فوقها. وبهذا، تتدمر سيارته، ويتحطم جسده، ولكي ينجو من حتفه، يحاول شد انتباه السائقين نحوه. لكن، هؤلاء، وبسبب حركتهم الكثيفة والسريعة، لا ينتبهون إلى مايتلند، الذي يكاد يموت، ونتيجة ذلك، يقبل بوحشته، ويمضي إلى النظر في حياته، وفي "الحضارة الإسمنتية" التي ينتمي إليها، والتي يجد في الأرض الخالية، حيث يجثو، ملاذاً منها.

ما يهم هنا أن العالقين في سياراتهم على الطرقات، وعند عطف وضعهم على وضع مايتلند، قد يكون توقفهم عن الحركة من جراء الزحمة سبيل تحولهم إليه، بحيث أنهم، وبعد قبولهم بالإرتداد والإرتعاد، بمقدورهم أن ينظروا في شؤونهم الخاصة، وفي "جزرهم الصحرواية" الواقعة داخلهم، وفي مواقعهم من "حضارة التوقف" اللبنانية: "الكثير من الجهد، الكثير من الحمى التي لا تفضي إلى شيء. يا له من عبث! لم يكن مايتلند في حاجة إلى مغادرة جزيرته".

فلما يفتح السير، ويصل العالقون في سياراتهم إلى مقاصدهم، لن يجدوا، ومثلما تخيلوا، المنتظِر المجهول، بأشكاله المتنوعة، عاتباً عليهم بعد كل إلحاحه من أجل بلوغهم إياه. وبعد أن يخبروا عن وضعهم العالق، سيرجعون إلى حيواتهم، إلى رتابتها، قبل أن يعلقوا في زحمة ثانية بعد فترة: "يا له من عبث.. لم يكونوا في حاجة إلى مغادرة زحمة سيرهم".

قد تكون زحمة السير فرصة السائقين للإنتباه والإلتفات إلى روبيرت مايتلند، للتفتيش عنه، وللنظر في وجهه، والإمتثال به. من هو روبيرت مايتلند، وأين هو؟ الإجابة كليشيه نوعاً ما: إنه كل واحد من العالقين، وفي كل واحد منهم. لذا، من المتاح لهم أن لا يفوتوا "عطلة" الزحمة، وأن يسرعوا في توقفهم إلى الإلتفات صوب مايتلند، وانتشاله منهم. فعلهم هذا يعني: تأكيد الحالة العالقة، تحويل ارتداد الدفق عليهم، وإرتعادهم خوفاً من جرائه، إلى إرتياح فيه لغض عيونهم وأعصابهم عن جمودهم وتوجيهها صوب أحوالهم. وهذا، ما يضمن لهم التفاجؤ بجريان السير من جديد، وهذا، ما يكفل لهم أن ينطلقوا في سير آخر، حيث لا تتمكن أي جهة من الإطباق عليهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها