السبت 2017/04/22

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

أحمد الفخراني لـ"المدن": لا أرغب في صناعة رواية جميلة

السبت 2017/04/22
increase حجم الخط decrease
يصنع الروائي المصري أحمد الفخراني عالمه من المهملات؛ لغة الشارع، الإعلانات الرخيصة، كرة القدم، السينما الهابطة، الأفلام الإباحية، أفلام التحريك، لعب الفيديو... وغير ذلك مما نفاه الأدب الرسمي خارج إطاره.

ولا يبدو صاحب "مملكة من عصير التفاح" بعيداً مما ذهب إليه مؤسسو "فن البوب"، ليس -فقط- لإيمانهم المشترك بأن استخدام الفنان لكافة الوسائل التعبيرية المتواكبة مع الثقافة الشعبية، يتوافق مع منظور الفنون، وإنما لاستعانته كذلك بعناصر ذلك الفن في بناء عالمه الفانتازي المحمل بأسئلته الوجودية المتعددة.

وفي روايته الأحدث "سيرة سيد الباشا"، الصادرة عن بيت الياسمين في القاهرة، يستكمل الفخراني، ما بدأه في كتابه الثاني "ماندرولا" (التي حازت بداية العام الجاري على جائزة مؤسسة "ساويرس"، في فرع الرواية لشباب الكتاب)، من مزجه الحقيقي بالمتخيل لصنع سردية مغايرة عن الواقع.

وعن روايته الجديدة ورؤاه الأدبية، كان لـ"المدن"، معه هذا الحوار:

- تتعرض الرواية للفرضية الهزلية حول وجود "مجلس أعلى لقيادة العالم"، وهو الموضوع الذي سبقت معالجته فنيًا بأشكال متعددة، وطرحت الفرضية نفسها للنقاش المباشر، الساخر في معظمه، في وسائط الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي حين يمنح الفن -بما يحتمله من خيال- الأفكار -مهما بدت مستهلكة- عمقًا أكبر، يعمل النقاش الاستهلاكي على تفريغها تماماً من أي معنى محتمل، فهل ما زالت تلك الفرضية –بعد استهلاكها في المجال العام- مثيرة للدهشة؟

- هذا يعتمد على ما أبحث عنه. ففضلاً عن أن النص نشر متأخراً عامين لظروف "غرائبية"، لكن هذا جيد.

الدهشة فعل استلاب، شديد السطحية. لماذا على النصوص دوماً أن تثير الدهشة، لا التفكير، التساؤل؟ لماذا لا تثير الضحك، الجدل، بل النفور؟ رجُل بقدَمي بطة، خطاب تافه لرئيس قد يثير الدهشة، لعبة ساحر في سيرك. النصوص السيئة أيضاً قد تثير الدهشة، ما المدهش في ذلك!!

لكن حسناً هذا سؤال مناسب لفكرة الرواية، التي لا تفترض هزلية "مجلس قيادة العالم"، لكنها تفترض أن هناك مَن يعمل على زرع أنماط للتفكير، كي نرى ما عداها غرابة أطوار، ظني أن أول من قال إن على النصوص أن تثير الدهشة، هو واحد من مجلس قيادة العالم، يتخيل قارئاً يرفع حاجبيه دوماً بانبهار، فاغراً فاهه أثناء القراءة، هذا مضحك ومثير للدهشة، وسطحي كذلك.

* تبدو محاولة إعادة تفسير الواقع خلال النص، ملفتة في بدايتها، لكنها تستهلك –في الوقت نفسه- من قدرة الرواية على سرد أحداثها، حيث عمدت خلال ثلثها الأول، وبشكل متكرر، إلى التطرق لسرد قصص فرعية كثيرة. ألم تخش أن يؤثر ذلك في تركيز القارئ فيُنسيه القصة الرئيسية، أو يشعره ببعض الملل؟

- لا أعلم.. ربما تكون على حق. عموماً لا أظنها قصصاً فرعية، لم أستخدم قصة من دون غرض في الرواية، هي قصص شخصيات ستظهر لاحقاً مرة أخرى وستؤدي إلى تطور السرد. ربما يصل هذا الإيحاء، لأني ما زلت أطور تكنيكات معينة خاصة بخلق عالم يحمل قوانينه ومنطقه الخاص منذ البداية، وما زالت "ماندورلا" و"سيرة سيد الباشا"، في فلك هذا التجريب.

روايتي المقبلة التي انتهيت منها بالفعل -وكانت ستنشر قبل الآن لولا تأخر "سيرة سيد الباشا" عامين- ستكلل مغامرتي بالتجريب.

منذ أن انتهيت من "ماندورلا"، وأنا أفكر جدياً في أسئلة الصنعة، السؤال الأساسي: كيف يتماهي القارئ مع عالمي المخلوق بالكامل، والذي يحمل منطقاً مغايراً عن الواقع. كيف أمهد لحدث غرائبي، من دون أن يشعر بتلك الغرابة. في مغامرة تبدأ من الصفر، قد تحتاج الإجابة إلى أكثر من رواية. أعتقد أني أسير بخطى صحيحة، عملاً تلو الآخر. الرهان يحمل في طياته احتمال الخسارة، والتجريب يحمل أيضاً قبول الخطأ.

*هل يمكن تصنيف "سيرة سيد الباشا" باعتبارها رواية "بوب"؟

- لا أعلم إن كان يمكن إدراجها تحت هذا التعريف، كل ما أحاول فعله هو الاستعانة بقوالب أخرى من خارج الرواية الرسمية، لطرح أسئلتي عن الوجود، مثل الكوميكس، الخيال العلمي، نظريات المؤامرة، ألعاب الفيديو، الأفلام التجارية كلها تحمل التأثير نفسه للثقافة "الرفيعة". أعتقد مثلاً أني قارئ جيد للفلسفة. وأسئلة نصوصي في الأساس أسئلة تنتمي لعالم الفلسفة.

* هذا الشكل من الكتابة يمكن أن يمثل صدمة للقارئ العربي المحافظ الذي تعود على نوع مختلف من الأدب "الرائج شعبيًا"، وفي الوقت نفسه قد يتعارض مع ذائقة قارئ "الأدب الرفيع".

- لا أتوجه في أي لحظة إلى قارئ أدب البيست سيللر. أعتقد أن ثمة شهوة في التصنيف، رغم تحفظي مثلاً على مصطلح الأدب الجاد، إلا أني، وعلى مقدار فهمي لما تقصد، أتوجه حتماً إلى قارئ هذا النوع، فأسئلة نصوصي هي أسئلته. ماذا لو كنت أقترح شكلاً، يمزج الثقافة الشعبية مع الثقافة "الرفيعة" إن جاز التعبير، الاثنان يشكلان وعيي ووعينا بالقدر نفسه، كما أسلفت.

عموماً لا أخشى القارئ، ليس عن غرور، أنا أقل شخص أعرفه تسامحاً مع نصوصه، أعنّف نفسي أكثر من أي ناقد أو قارئ قابلته، وأبحث عن مناطق الضعف بدأب. لكني فقط أحاول أن أطور تجربتي في هدوء، بعيداً من سُلطة القارئ، العزلة والانقطاع عن سلطة القارئ والروائيين هنا قد تكون مفيدة، لأنها تسمح لي بتطوير عملي بلا خوف أو تشنج. واحدة من المخاطر الكبرى التي يعانيها بعض المجايلين لي، وأعاني منها بالمثل، أن لنا دائرة قراء منذ اليوم الأول الذي قررنا فيه الكتابة، وهذا يجعل التجريب أمرًا خطرًا، أفضل أن أفترض قارئاً لا وجود له، ليس له طلبات، أن أكرر شيئاً أحبه، أو أصنع شيئاً يحبه. في تلك المرحلة، أفضل أن أطرد قرائي من ذهني. فكرتي عن الكتابة الروائية: إن لم أقترح شيئاً جديداً، فلا داعي للانضمام إلى سرب الروائيين. هذا يعني الخطأ، ثم المزيد من الخطأ، ثم شيئاً ما هائلاً، أو لا شيء.

ثمة انتصار، في أن تهزأ تماماً بما يكبلك، بما ادخرته من قوة وجسارة وأنت تواجه العالم بحيطة، أدخر جسارتي للكتابة، لكن ما أضفته بعد "سيرة سيد الباشا"، أني صرت استعيد الحذر البالغ عند تحرير النص عقب الانتهاء من كتابته الأولى.

أتحير حقا في شأن الروائيين، حين يشتكون من رواج الروايات السيئة على حساب أعمالهم. فالحقيقة أن صناعة الروايات الجميلة صارت شائعة حد التخمة. فالقاعدة الجيدة التي دأبت على إنتاج المهندس والطبيب والمحامي وبائع العطور وميكانيكي السيارات وضابط الجيش والمخبر والقهوجي، صارت تنتج كل يوم روائيين جيدين. بهذا المنطق لا أرغب في صناعة رواية جميلة. هذا رهاني، فليربح كل شيء أو لا شيء.

* قد تمثل لغة الرواية "المكشوفة" عائقًا أمامها للحصول على جوائز، بل ربما تعرض نفسها للمنع وكاتبها للسجن، مثلما حدث مؤخرًا مع أحمد ناجي. كيف ترى ذلك؟

- لا أكتب نصاً من أجل جائزة. رغم حصولي على جائزة ساويرس بنص لغته "مكشوفة" أكثر مثل "ماندورلا"، المنشورة العام 2013. الجوائز لا تمثل لي أكثر من إضاءة على التجربة في ظل سيل من الروايات الجيدة والممتازة، ونقود تعينني على قرار التفرغ للكتابة الذي اتخذته منذ ثلاث سنوات. لكنها أيضاً الفخ الأكبر، إذا ما صنعت سقفاً للكتابة، ومعياراً للجودة. كل الجوائز جميلة، كل الجوائز سيئة. لا أشغل نفسي كثيراً بخصوص اللغة المكشوفة، أنا ومجايليّ اتخذنا قراراً شجاعاً منذ زمن بتجاوز "المواربة" في الكتابة – بتعبير ناجي الذي صودف أيضاً أنه دفع ثمن الاشتباك مع بلاغة الديناصورات. لا أتمنى لأحد أن يدفع هذا الثمن.

* كانت روايتك الأولى "ماندرولا"، قصة قصيرة ضمن نصوص عملك الأول "مملكة من عصير التفاح"، وفي "سيرة سيد الباشا" إشارات متعددة إلى "ماندورلا". فهل تحاول صنع رابط ما بين أعمالك؟ ألا تخشى أن يسِمك ذلك بالتكرار؟

- تضمين قصة من المجموعة القصصية، داخل الرواية، لم يكن يعني تكرارها، لو عدتَ للرواية، ستجد أنها في الأساس تعمل على مساءلتها، تشويه رومانسيتها الساذجة، محاولة اكتشاف معنى آخر غير المعنى "البريء" والسطحي الذي اقترحته المجموعة القصصية، الإشارة في "سيرة سيد الباشا"، هي فعلاً محاولة للإشارة إلى أن ثمة عالم أصنعه، وأن كل رواية فيه هي خطوة، نحو نضج ما، أو شك ما.

* قد تناسب أفكارك عوالم الروايات المصورة، فهل فكرت من قبل في الاستعانة برسام وكتابة "غرافيك نوفل"؟ وهل سيكون لعملك المقبل علاقة بعالمي "ماندورلا" و"سيد الباشا"؟

- استعانتي بتكنيكات الكوميكس في رسم الشخصيات لا تعني في الأساس أني استطيع كتابة رواية مصورة، استعين بها فقط لمحبتي البالغة لهذا النوع، كما أن بعض تقنياتها على تماس مع مشروعي، لكن ربما أفكر يوما في شيء كهذا، أراه عملاً بالغ الصعوبة. ويحتاج إلى مهارات مغايرة.

عملي المقبل "عائلة جادو" -وسيصدر قريباً عن دار العين- يحتفظ بالأساسيات نفسها بدرجة نضج واحكام أكبر: عالم مختلق من البداية، لكن بإيقاع أكثر تمهلاً، وبنية روائية محكمة نوعاً ما، وإجابة على سؤال كيف تقنع قارئ بعالم غريب عليه تماماً. الرواية عن كارل ماركس، ليست رواية تاريخية، تحديداً ما الذي يمكن أن يخبرنا إياه ماركس عن عالمنا المعاصر. وكيف أراه بعد نزع رداء الأساطير، محاولاً القبض على ما أظنه جوهره الصلب، الذي لم تزيفه الدوغما. أعوّل كثيراً على هذا العمل، وانتظر صدوره بشغف بالغ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها