الخميس 2017/12/21

آخر تحديث: 14:25 (بيروت)

الكبسولة اللبنانية

الخميس 2017/12/21
الكبسولة اللبنانية
increase حجم الخط decrease
لو كان ممكناً وضع الأحداث التي شهدها لبنان خلال الأسبوعين الماضيين، في علبة، فإن الواجب التاريخي كان سيحتم علينا توضيبها بعناية ثم طمرها في وسط بيروت، كأثر لا بدّ من حفظه و"كبسولة زمن" مستحقة. وبذلك، نكون قد أوجزنا، لمَن سينبشها من خبراء التنقيب والآثار والدراسات التاريخية بعد آلاف السنين، بل ولأي زوار محتملين من الفضاء الخارجي، مَن نحن، وكيف (كنا) نعيش في هذا المكان.


البداية من فيديو زعيم "عصائب أهل الحق" العراقية، قيس الخزعلي، عند "بوابة فاطمة" على حدودنا الجنوبية مع فلسطين المحتلة، حيث بشّرنا حليف "حزب الله" بـ"الجهوزية التامة لتلبية نداء الإسلام في التمهيد لدولة العدل الإلهية دولة صاحب الزمان"، وصولاً إلى تفاعلات قضية الإعلامي مارسيل غانم مع القضاء اللبناني والتي تتوّج الآن سلسلة ممارسات تنتهجها السلطة منذ وصول الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة، لمضايقة وترهيب الناشطين والصحافيين وأصحاب الرأي، ما حفّز جماعات ومنظمات المجتمع المدني اللبناني على تنظيم اعتصام احتجاجي "رفضاً لسياسة كمّ الأفواه ودفاعاً عن الدستور".

وبين الحدَثين: سقوط أربع نساء، خلال أسبوع واحد، ضحايا جرائم قتل واغتصاب، وانتشار دعوة لإضاءة الشموع من أجلهن، مصحوبةً بنص مؤثر وعالي النبرة ضد الثقافة الذكورية وملحقاتها المجتمعية والقضائية. إضافة إلى موافقة مجلس الوزراء على تلزيم ثلاث شركات استكشاف النفط اللبناني والتنقيب عنه، وذلك خلال جلسة تراضٍ غرائبية لفّها ضباب الصفقات "الوطنية" التي لا تحبذ الشفافية. ثم نضيف إلى كبسولتنا الأثيرة، تصريحات خرَقت اتفاق "النأي بالنفس" الذي أبرم بإجماع القوى السياسية الأساسية في لبنان، لا سيما "حزب الله"، فأتاح تراجُع رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقالته التي كان قد قرأها متلفزة من محبسه في الرياض.

وستتسع الكبسولة بعد لقصة رضا طاهر، آخر عنقود اكتشافات الصحافة الأميركية في مجال الجرائم المالية والمصرفية وتبييض الأموال لتمويل "حزب الله". وسيرفدُ هذه الحكاية البوليسية المشوقة، تقريرُ صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، والذي كشف أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبهدف إتمام الاتفاق النووي مع إيران، عرقلت تحقيقات كان يجريها "مكتب مكافحة تهريب المخدرات" حول شبكات إجرامية لإيران و"حزب الله"، نجحت في جمع مليارات الدولارات من عمليات تبييض الأموال والإتجار بالكوكايين والأسلحة.

وأخيراً، وليس آخِراً، وقبل إحكام غطاء كبسولتنا الرمزية، سنضيف وثيقة سياسية، نشرت في موقع "درج"، وهي "نتاج عمل وتفكير مشتركين بين مجموعة من الناشطين والمعنيّين بالشأن العامّ اللبناني، المهتمّين بإثارة نقاش أوسع حول ما هو مطروح فيها".

والوثيقة، التي تصلح لأن تكون ركيزة تأسيس حزب أو تيار وحركة سياسية جديدة، تقدم موقفاً عقلانياً هادئاً من مجمل الحالة اللبنانية الرثة راهناً. وذلك على اعتبار أننا، كمواطنين لا تؤطرنا الهوية الطائفية أو المذهبية ونؤمن بالديموقراطية والتعدد والتسامح والعيش المشترك بما يحفظ كراماتنا الإنسانية وحقوقنا جنباً إلى جنب واجباتنا، وطالما ما زلنا نعيش في هذا البلد، فعلينا أن نُسمع أصواتنا، بل وأن نسعى لأن نكون ممثلين فعلياً في الحياة العامة، السياسية والثقافية. وتقارب الوثيقة سلاح "حزب الله" غير الشرعي، الخارج على الدولة والداخل في الديناميات الطائفية ونظامها الحاكم، محاذرةً، بذكاء ورزانة أخلاقية وسياسية، مطبات 8 و14 آذار وأفخاخ "مقاومة إسرائيل" في السياق اللبناني والفلسطيني، والحرب السورية، والصراعات الإقليمية والمذهبية، لتصل إلى معضلات الفساد وركاكة مؤسسات الدولة، مع محاولة التأمل في المنظومة الاقتصادية الأكثر ملاءمة للبنان. وفي الوثيقة، مقترحات لمسارات تفكير في شكل ومضمون الديموقراطية اللبنانية المرجوة، كخطوات لـ"تصليب المواقع غير الطائفية" في البلد، وفي سياق نضال ثقافي وسِلمي مديد، لا سيما، على سبيل المثال لا الحصر، على صعيد ضمان حرية التعبير والحريات الفردية، و"تضييق النطاق الذي تشتغل ضمنه العلاقات والمؤسّسات الطائفيّة، وعلى رأسه قانون الأحوال الشخصيّة وقانون الانتخابات"، بموازاة التصدي للتمييز المكرس بين الذكور والإناث، كما هو الحال مثلاً في منع المرأة اللبنانية من منح جنسيتها لزوجها الأجنبي ولأولادها منه.

وفيما نهيل تراباً بيروتياً على كبسولتنا اللبنانية كمنمنمة تأريخية مستقبلية عن زمننا وأحوالنا، لا مفرّ من تأملنا في التناقضات التي نعيشها كتحصيل للحاصل، تلك التي نبتلعها ونعاني عسر هضمها، ولا شربة تعيننا على عوارضها في أجسادنا وعقولنا وأرواحنا. فمع الفوضى.. أفكار، ومع القمع.. أصوات تعلو بالرفض، ومع هيولى الدولة وفلتان الحدود والأمن وفساد الحُكم.. وثيقة سياسية واقعية وإن لم يتعدّ مفعولها فتح باب النقاش، ومع الاستقواء.. تصوّر لاستقرار مشرّف بلا دونكيشوتية ولا نعرات كما هو بلا حَوامل بشرية أو مؤسساتية، ومع النمط الذكوري والبطريكي المهيمن.. مساعٍ لتسمية الجرائم بأسمائها الأنثوية في ظل جمود النصوص والانزياحات المحدودة في الممارسات.

وفوق مطمر الكبسولة، سيظل يحوم الشك: هل يُعثَر في ثنايا المفارقة اللبنانية على رافعات فعلية لمنطلقات وطنية بديلة أياً كانت؟ بديلة بالحد الأدنى، ورافعات تدرك مسبقاً أنها تمثل الأقلية لكنها قد تعمل لتؤمن مقعداً في برلمان أو حكومة تقدم منه خطاباً يقابل الهراء المستشري؟ أم أن الوثائق والاعتصامات ونقاشات مواقع التواصل والصحف والتلفزيونات وساحات المجتمع المدني، ستظل كلها مجرد "وازِنات" وهمية للعفن العميم والمتغلغل؟ لعلنا، على سبيل الاحتياط، نوسع مطامر الأمل، كما فعلنا مع النفايات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها