الأربعاء 2017/11/15

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

عن انجذاب الفن المعاصر الى صورة VHS

الأربعاء 2017/11/15
عن انجذاب الفن المعاصر الى صورة VHS
لقد كان وقت هذه الأشرطة تلفزيونياً
increase حجم الخط decrease
من الممكن الاتكاء على العمل الفيديوي الذي تقدمه منيرة القادري في "متحف سرسق"، تحت عنوان the craft (المَركَبة) لإثارة استفهام بعينه: لماذا ينجذب شغيلة الفن المعاصر، ومن حين الى ثانٍ، الى أشرطة VHS، وصورها وطرازها البصري؟ وداعي الاتكاء على فيديو القادري، هنا، لا يتعلق براهنية عرضه فقط، بل أيضاً بتمكنها من مرآه، الذي بدا متماسكاً، بمعزل عن السرد المرافق له، والمنظور الخطابي المنتج له.

قد يصح إدراج هذا الانجذاب في سياق العتيقية (vintagisme)، الذي يظهر في مجالات عديدة، من استرجاع الأثاث في دنيا التصميم الداخلي المنتمي الى القرن الماضي، الى استرجاع الأفلام، التي تنتمي بأنواعها الى القرن ذاته، في دنيا البورنوغرافيا، مروراً بدنيا المطبخ والأزياء والموسيقى والسينما. ولا تقتضي العتيقية استحضار القديم، بل اختيار العتيق، أو ما يجري حسبانه على هذا النحو. والاختلاف بين الاثنين هو أن الثاني هو القديم، وقد انعتق من ماضيه، مع أنه بلغ نهايته، الا أن اعتماده في وقت لاحق على وقت ظهوره يهبه محلاً وقيمةً. فالعتيق، وبالعطف على أحد معانيه العابرة للفرنسية والعربية والإنكليزية، هو الذي تخمر، اكتمل، وأي تناوُلٍ له من كهفه، يجعله "مادة" قائمة بنفسها، مغايرة للماضي والحاضر على حد سواء.


بالطبع، نمت العتيقية كبحث عن ركيزة إثر الانسداد في عالم اليوم، والذي يتسم بكثرته الشيئية، لا بقلَّتها. فهذه الركيزة تخبر عن الماضي المختفي، لكنها في الوقت نفسه، تفتح الحاضر المقفل. العتيق جدير بأن يكونها، لكن التفتيش عنه قد يقع في ثلاثة أفخاخ ذائعة: فخ استعادة كل قديم وتأديته بالتأرجح بين التشبه والباروديا، وفخ تغيير هذا القديم إلى موضوع تذكُّر وصبابة، ما يودي إلى التحسر أو الأسى، وفخ تحويل العتيق إلى مُنقذ. على أن العتيق، عدا عن كونه ليس قديماً، فهو ليس موضوعاً للتذكُّر والصبابة، بل إن نسيانه وتأجيل حضوره يكفلان انعتاقه، ويكفلان إتمامه، قبل أن يطرح نفسه، لا كمٌنقذ، بل كمَعلَم، مشطور من زمنه، وواقع في كل زمن. حسناً، وهل ينطبق هذا على أشرطة VHS؟

لقد كان وقت هذه الأشرطة تلفزيونياً، كما كان وقتها وقت الإستهلاك، والكاميرا المنزلية التي سمحت لمستخدميها بأن يصوروا معاشهم ليتفرجوا عليه. فعلى الرغم من كون صورة هذه الأشرطة تتصل بالصورة التلفزيونية، إلا أنها أتاحت لهؤلاء أن يخرجوا بيانهم عليها، وداخلها، تدور وقائعهم كوقائع الفيلم، ويدورون فيها كممثلين. كانت صورة: "يحق لكل منا أن يصنع من حياته فيلماً"، يتفرج عليه من وقت إلى آخر، ولهذا يوقف صورة البث التلفزيوني. صورة الـVHS في مقابل صورة التلفزيون، صورة "الحق في الصورة" في مقابل "فرض الشاشة" كصورة، وصورة دمقرطة "الأفلمة" في مقابل صورة الفيلم المعد مسبقاً. من هذه الناحية، تخبر صورة الأشرطة عن وقتها، تخبر عنه بالإستناد إلى مغايرتها له، وإلى انعتاقها منه بتوقيفه. ومن هذه الناحية، هي عتيقة، لا سيما أن طريقة الاحتفاظ بها تجعلها مقيمة في أوعيتها البلاستيكية، حيث تسجيلها يساوي اكتمالها، الذي يتوِّجُه التلف.


وهذه الأشرطة التي التقطتها الكاميرا المنزلية، وقعت في الوسط بين وقت الإستهلاك وصورته التلفزيونية، وبين وقت الكثرة وصورته الهاتفية والإنترنتية، شاهدةً على الإنتقال من الأول إلى الثاني. وعليه، اتسمت صورتها بما يتباين مع صورة الإستهلاك وصورة الكثرة. فلا هي أدائية، ولا إصبعية، ولا معروضها عام، ولا يُلقى بها في ضغط التواصل. اتسمت بأنها ثقوبية، يرتاح إليها النظر، وتقديمها مُعيَّن، بمتفرجين يحددهم صنّاعها. من هذه الناحية أيضاً، ناحية الوقوع في الوسط بين وقتين وصورتين، صورة الأشرطة هي صورة عتيقة.

لكن، أن تكون هذه الصورة عتيقة، فهذا لا يضمن الحفاظ على عتقها، بل يدفع إلى هتكه. وذلك، من خلال تعريضها للأفخاخ الثلاثة المذكورة أعلاه، والتي يجري السقوط فيها فنياً. فإذا كان لعتق هذه الصورة معنى، فهو الإشارة إلى المشكلة التالية: كيف يمكن خلق صورة على منوالها في وقت الكثرة، أي صورة تخبر عن هذا الوقت، وتوقفه؟ الإجابة الدارجة: لا يمكن. الإجابات الأخرى، التي تفسح المشكلة: ما ضرورتها؟ لمن؟ ومن أجل ماذا؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها