الإثنين 2017/10/09

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

الأدب في مواجهة الزيادة السكانية

الإثنين 2017/10/09
الأدب في مواجهة الزيادة السكانية
الشباب المديني، والمدفوع إلى الزواج لممارسة الجنس "الشرعي"، قريب أيضاً من بطل يوسف ادريس الحانق على طفرة المواليد
increase حجم الخط decrease
يروي مسؤول في وزارة الثقافة، وكان مرافقًا للوزير الأسبق فاروق حسني في إحدى رحلاته الخارجية، أن الأخير اجتمع بوزير ثقافة لدولة خليجية، وتطرق حوارهما لمسألة الكثافة السكانية، فسأله حسني عن تعداد السكان في دولته، فأجابه بأنهم 185 ألف مواطن وحوالى 850 ألف وافد، فضحك فاروق معقبًا بأن عدد العاملين بوزارة الثقافة المصرية يكاد يقترب من عدد مواطني الدولة الخليجية.


كان حسني دائم الفخر بحجم العمالة في وزارته، ربما لما يعكسه العدد من معان سياسية، حيث إنه يوحي بقدرة الوزارة على استيعاب عدد كبير من المثقفين، كما يوحي بفعالية أدائها، لامتلاكها هذا الجيش الجرار من المبشرين الثقافيين. لكن استحضاره لمسألة القوة العددية في القصة السابقة، يعكس كيف تتبنى وزارة منوط بها نشر الثقافة، ومن ورائها الدولة المصرية؛ فَهمَ الشعب نفسه لمسألة الزيادة السكانية باعتبارها "عزوة"، وهو ما يفسر بالضرورة فشل الدولة في الحد من الإنجاب وتنظيم النسل.

إن إعلان الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد المواطنين بلغ 104.8 ملايين نسمة (94.8 مليون نسمة في الداخل وعشرة ملايين في الخارج)، لا يشي بحدوث انفجار سكاني خلال السنوات العشر الأخيرة فحسب، إنما تكشف تفاصيله أن الدولة لم تنجح على مدى عقود في تنظيم نسل شعبها، بل لم تؤثر مطلقًا في نظرة هذا الشعب إلى مسألة الحد من الإنجاب. فنسبة زيادة السكان المصريين في الحضر والريف، منذ العام 1996 وحتى الآن، ثابتة تقريبًا، وإن شهدت نمواً طفيفًا في معدل النمو السنوي، بحسب النتيجة الأخيرة للتعداد (*).


فالحملات الإعلامية التي حاولت ترسيخ مفهوم "العزوة" في طفلين قويين يضمنان مستقبلًا أفضل، بدلاص من عشرة ضعفاء البنية بمستقبل فقير، لا تتقاطع مع فهم الأسرة الريفية –مثلًا- لأهمية العدد باعتباره أحد العناصر المهمة في بناء اقتصادها، وهو ما يجعلهم عازفين عن استخدام وسائل تحديد النسل المدعومة من قبل الحكومة، وإن كانت الأخيرة يقابلها أيضًا رفض ديني وارتياب في مدى جودتها.

وعلى خلاف فهم الدولة القاصر، لبنية الأسرة المصرية ومفهومها عن الإنجاب، يعكس المنجز الأدبي المصري فهمًا واضحًا لتكوين هذه الأسرة، ويقف –بطريقة مباشرة وغير مباشرة- على بعض من أسباب زيادة الإنجاب.

أبناء "فاطمة تعلبة"
ثمة العديد من الأعمال السردية، قصصية وروائية، التي استحوذت العائلة فيها على موضوع النص. وتبدو رواية "الوتد" للراحل خيري شلبي، المثال الأقرب إلى عرض البنية الاقتصادية للأسرة الريفية. فأبناء "فاطمة تعلبة"، على اختلاف شخصياتهم ومستوياتهم التعليمية وقدراتهم الإنجابية، كانوا كلهم أعمدة في رأس مال بيتها. وعلى الرغم من البنية الهرمية لتلك الأسرة في ما يخص تداول السلطة فيها، إلا أن وظائف أفرادها الكثيرين في زراعة الأرض ومتابعة أعمال البيت، جاءت تكاملية، لا تراتبية، وهي البنية نفسها المهيمنة حتى اللحظة على اقتصاد الأسر الريفية، وإن لم يعد أهلها يعملون في الزراعة.

ربّ الأسرة ريفية، يجمع أبناءه وأحفاده حوله على مائدة الطعام، وليس هو وحده معيلها. إذ ثمة تقليد تحتكم إليه إعاشة العائلات الريفية، المتوسطة والفقيرة، وهو أقرب إلى ما يمكن اعتباره اقتصادًا تكافليًا. فالأب لا ينجب الأيدي العاملة لتعينه على المعيشة ما إن يستطيعوا العمل، وإنما ليتكافلوا جميعًا من أجل تكوين رأس مال البيت الذي يعيشون تحت سقفه. فكل ابن يخرج إلى سوق العمل، عليه أن يقتطع الحصة الأكبر من راتبه لصالح أب (يعمل أيضًا) يتحكم في مصروفات إعاشة تلك الأسرة ويدخر لمستقبلها، في مقابل أن يوفر له الأخير الغذاء والزواج، بالإضافة إلى فرص النماء الناتجة عن الادخار طويل المدى.

وهنا، ونحن نتحدث عن سهولة الإنجاب. إذ لا تبدو فكرة الزواج وإعالة أسرة جديدة، مؤرقة، بالنسبة إلى فرد يستطيع ذلك، بغض النظر عن إمكاناته الفردية، طالما سهّل له "التكافل" هذا الأمر. كما لا يمنعه من تحديد الإنجاب. بل على العكس. يُمكّنه هذا الشكل الاقتصادي من النماء والتوسع من خلال استثمار ما ادخرته الأسرة كاملة، في توسعة المنزل أو تشييد آخر قادر على استيعاب الزيادة المضطردة.

ويحظى هذا النظام المعيشي بسلطة متفردة، غير السلطة التقليدية المتمثلة في صورة الأب، حيث تبرز مفردة "العزل" كمكوّن ثقافي لتلك الأسر، وهي مفردة تتغير لفظيًا من قرية إلى أخرى، وتظهر في لغة بعضها باسم "التشميس": أي لفظ الفرد في العراء وحيدًا تحت الشمس من دون مظلة. وهو مصطلح بالغ الدلالة. فتلك العائلات تلجأ إلى فعل العزل كوسيلة لعقاب أفرادها الخارجين على أعرافها، وفي الوقت ذاته قد يلجأ إليه الفرد كوسيلة لإبداء اعتراضه على أحكام تلك الأسرة. غير أن العزل في الحالتين فعل يستجلب اللوم على القائم به، وقد يستدعي اللجوء إلى الجلسات العرفية لحل المشكلة التي أدت إلى حدوثه في بعض الأحيان.

يوسف ادريس والتسلية بالجنس
في قصة "أرخص ليال" ليوسف إدريس، يلجأ بطل النص "عبد الكريم"، إلى الجنس، كوسيلة مجانية/رخيصة لمتزوج مثله للترويح عن نفسه، في حين أنه لا يملك مالاً لممارسة نوع آخر من أنواع التسلية. ويوحي النص، في أحد وجوهه، بأن المجتمع يتعامل مع الإنجاب كنتيجة حتمية لهذه الممارسة، وإن لم يدرك ذلك.

ولا يبدو الشباب المتعلم، من أبناء المدن، والمدفوع إلى الزواج في سن مبكرة بغرض ممارسة الجنس في إطار شرعي، بعيدًا من "عبد الكريم" الحانق طوال الوقت على زيادة عدد المواليد. فالزواج، في العرف الاجتماعي لهؤلاء الشباب، ليس إلا هدفًا لتحقيق غاية أسمى، هي التناسل، وبالتالي فإن تأخر الفرد في الإنجاب يمثل أرقًا يلاحقه أينما حل. وهو الأمر الذي يفسر العدد الضخم من المواد الإعلانية عن مراكز علاج العقم وضعف الخصوبة.

في الوقت نفسه، يمثل الخطاب الديني عائقًا أمام الشباب المستنير الذي قد يتخذ قرارات بتحديد النسل أو تنظيمه. فهي عملية تقع، في عرف الطبقة المتوسطة، بمنزلة ارتكاب المعاصي، وبالتالي يصبح قرار الفرد بعدم الإنجاب أو الاكتفاء بطفل واحد، قراراً صعب التنفيذ في كثير من الأحيان، ناهيك عن صعوبة (إن لم نقل استحالة) إقامة أي علاقة معترف بها مع الجنس الآخر إلا من خلال الزواج.

مواجهة الانفجار
وبالتالي، فإن ما يعكسه خطاب الأدب، من اشتباك مع ثقافة المجتمع المصري، يقابله خطاب رجعي وقاصر لسلطة فشلت –رغم تبنيها حملات التوعية على تنظيم النسل منذ سبعينات القرن الماضي- في الاشتباك معها. ربما لأنها تتبنى القيم ذاتها التي ترفع شعار "العزوة" في مواجهة قدرات الدول الأخرى. فدعم وإتاحة عقاقير ووسائل الحد من الإنجاب، لا تجدي نفعًا مع أنماط اقتصادية واجتماعية ودينية تحول دون استقلال الفرد، وتقمع حريته، والأخيرة مزية إضافية للأدب الذي يدعو خطابه بشكل عام إلى استقلال الفرد والإعلاء من ذاتيته، وهو خطاب يؤرق الدولة المصرية أكثر مما يؤرقها الانفجار السكاني.


(*) تغير معدل النمو السنوي من 2.04% خلال الفترة من 1996 – 2006 إلى 2.56% خلال الفترة 2006 – 2017، حيث تزايدت نسبة السكان في الحضر من 42.6% في تعداد 1996 إلى 43.0% في تعداد 2006، ثم تناقصت بنسبة بسيطة إلى 42.2% في تعداد 2017. وفي المقابل، انخفضت نسبة سكان المصريين في الريف من 57.4% في تعداد 1996 إلى 57.0% في تعداد 2006، ثم تزايدت بنسبة بسيطة إلى 57.8% في تعداد 2017. أما نسبة المتزوجين فبلغت 68% (65.9% للذكور، 70.2%للإناث).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها