الإثنين 2017/01/09

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

أين العمل؟

الإثنين 2017/01/09
أين العمل؟
ليس المطلوب من "الزائر المثالي" أن يعجب بالعمل
increase حجم الخط decrease
لزائر أي معرض فني في بيروت، ان يلاحظ، وفي اغلب الأحيان، التفاوت الواقع بين الوصف المكتوب عن العمل المقدم من جهة، والعمل نفسه من جهة اخرى. ذلك، انه حين يقرأ الاول، الذي قد يكون مطبوعاً على الجدار أمامه، او منشوراً على الورق بين يديه، يجد فيه مجموعاً من الجمل المتصلة بعنوان اساس، تعمد الى التأكيد عليه بواسطة كمٍّ من المصطلحات والمفاهيم، التي قد يكون ربطُها منجزاً، وقد لا يكون. فإما أن ترسو على تصور متبلور، او تبقى دونه. وعندما ينتهي من قراءة الوصف المؤلف عن العمل، يذهب الى معاينته، لكنه، سرعان ما ينتبه الى انه غريب عن المكتوب حوله، أو حول المفترض ان يقوم به، إبرازاً او حجباً، وبالتالي، يظل بعيداً منه، لدرجة افتقاره الى التبيان، وقبله، الى الإبداء.

يفضي هذا التفاوت بين المكتوب والمعروض، بين المقروء والمعاين، بين وصف العمل والعمل ذاته، الى اضعاف طرفيه، وجعلهما، في بعض الأوقات، بلا طائل، لا سيما لما تحل العلاقة بينهما على الهزل والاغتراب المتبادلين. فإذا جرت معاينة العمل بالانطلاق من قراءة وصفه، لا يصيب في مضاهاته. وإذا جرت قراءة الوصف بالاستناد الى معاينة عمله، يظهر على شقاق معه. فلا الوصف يلائم العمل، ولا العمل يناسب الوصف. لا الأول حديث في الثاني، ولا الثاني محط هذا الحديث. فكل طرف من طرفي التفاوت ينأى بشاكلته ومعناه عن الثاني، حتى تنعدم العُرَى بينهما، سواء كانت مستقرة على التناقض، او على التآلف، او على الفصل، او على الوصل. لكن، ولأنهما متجانبان، يبدو الانقطاع بينهما مزيفاً بالتجاور، مثلما يبدو ان توحد كل منهما مزيف بالاجتماع.

في اثر ذلك التفاوت، يذوي العمل، وبعد أن يخسر إيضاحه، يتراجع الى حال من النقص، الذي لا يتحرك معناه منه، بل يتجمد تحت وطأته، فيظل متخثراً، لا يبلغ متلقيه، ولا يشتد عليه. الامر نفسه، ينسحب على الوصف، الذي، ولأن العمل بعيد منه، يفقد استمراريته في خارجه، ويستوي على نقص في معناه، بحيث انه مُعدّ ليبدي، ليعرض، ليظهر، لكنه، بدلاً من ذلك، يقفل على ذاته، ويرتد، وينصرف، حتى يضحي نصاً مرتكزاً على "الكلام عن" عمله لأجل إسكاته.

طبعاً، لا يشير الاسكات، في هذا السياق، الى سيطرة الوصف على العمل، ونفيه له، كما لو انه ضحيته، بل الى ان العمل، بدوره، يستعيض عن صياغة قوله بالخرس، بالكثير من الكلام، الذي يوفره الوصف له. فلأنه لا "يقول" من تلقاء تقديمه، يلجأ الى الوصف لـ"يتكلم عنه"، ولا يهم إن نقله أم لا، ما دامت وظيفته ان يراكم "كلامه" فوق عدم قوله. وربما، من الاجدى للعمل ألا "يتكلم" الوصف بدقة "عنه"، فبذلك، ينقلب من موضوع معاينة الى موضوع تفتيش، فبدلاً من أن يتلقاه الزائر، يسأل عنه، كأنه موجود في إزائه، وفي الوقت عينه، مفقود.

يتشكل معرض التفاوت من عمل لا يقول، بل يختار الخرس، باعتباره ستراً لانعدام القول، عبر وصفه، الذي ما إن "يتكلم" حتى يظهر كأنه "يتكلم عنه". وفي هذا المعرض، على الزائر ان يتنقل في البون بين الوصف وعمله، يقرأ ويعاين، فلا يجد المكتوب في المُقدَم، ولا المُقدَم في المكتوب، وعليه، عند ذلك، ان يتعقب معنى الاول في الثاني، والعكس، وعندما لا ينجح في مهمته هذه، يتحول الى "الزائر المثالي".

وليس المطلوب من "الزائر المثالي" أن يعجب بالعمل، بل المطلوب منه الالتزام باستفهام بعينه، وهو: "أين العمل؟"، قبل ان يظن ان الوصف هو ما خطفه. لكنه، في هذه اللحظة، يكون احتجازه على يدي الاثنين، على يد العمل ووصفه، قد تم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها