الثلاثاء 2016/07/05

آخر تحديث: 11:12 (بيروت)

عباس كياروستامي... شاعر السينما

الثلاثاء 2016/07/05
عباس كياروستامي... شاعر السينما
الشاعر الذي وضع الفيلم الإيراني على خريطة السينما العالمية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
رحل السينمائي الإيراني عباس كياروستامي، وهو إلى جانب أنه كان "شاعر السينما" مثل بعض أقرانه أندريه تاركوفسكي وجان لوك غودار وانغمار برغمان، كان أيضاً السينمائي الذي يكتب الشعر مثل الإيطالي باولو بازوليني، والفرنسي جان كوكتو، والبلجيكي ديريك جيرمان وغيرهم من المخرجين متعددي المواهب والأحلام والتجليات.


وكياروستامي أحد أهم وأبرز المخرجين في السينما العالمية المعاصرة والمعولمة، استطاع بفضل "فاكهته السينمائية" و"طعم كرزه" أن يضع الفيلم الإيراني على خريطة السينما العالمية، وأن يجعل من حضوره حدثاً ثقافياً مهماً له عشاقه ونقاده، وبذلك اخترق الحجاب الذي فرضته الثورة الخمينية على الواقع الإيراني وثقافته، فتح نافذة في جدار الممنوع ليصل إلى العالمية، أسس جمالية خاصة يرتكز عليها فنه، ومن بينها أشعاره. وبقدر ما كانت له فكرته في السينما، كانت له صورته في الشعر، إذ ساهم في "تشذيب" الشعر الايقاعي عملاً بمقولة الشاعر الفرنسي أرثور رامبو "ينبغي ان نكون حداثيين بشكل مطلق"، متسلحا بأفكار انتجها زمن التكنولوجيا والوسائط الحديثة، بدءاً من السينما نفسها، وصولاً الى الرسائل القصيرة.

وان قلنا عن كياروستامي إنه "شاعر السينما"، يمكننا وصف سينماه أيضاً بـ"سينما الشاعر"، فهو يمارس كتابة الشعر الذي يغلب عليه الطابع التصوير الاختزالي والحسي والوجودي، وكان يقول إنه "سينمائي بالصدفة"، ويحذّر من الاستخدام الفج للشعر في السينما، ويشدّد على خطورته.. "لكن في صياغة الحوارات، بإمكانك أن تستفيد من الانطباعات والأفكار التي تحصل عليها من أعمال شاعر معيّن"، ولطالما اعتبر أن السينما التي تدوم لفترة أطول هي السينما الشعرية، لا السينما التي تروي قصصاً فحسب. فالقصة تُقرأ ويُفهم مغزاها، أما القصائد فيمكن تأويلها في أكثر من اتجاه. ونعلم ان "السينما الشعرية" بحسب تسمية بازوليني لا تعني أبدا أن نعالج قصيدة شعرية سينمائيا، فقد تتم معالجة إحدى القصائد الشعرية، وقد لا يكون الفيلم فيلما شعريا. والحوار الشعري في الفيلم لا يعني أبدا أن الفيلم شعري.

 كياروستامي، السينمائي والشاعر، كان مولعاً بأشعار الهايكو اليابانية التي تقترب من الرباعيات الفارسية والعربية، وهو يرى أن قصيدة الهايكو "أكثر قصائد العالم شاعرية، لأنها حررت نفسها من كل القيود، إنها لا تمنحك كل ما ينبغي أن تمنحه، بل تبقيك عطشاً إلى المعنى"، والمفارقة أن اندريه تاركوفسكي كان يقارب بين قدرة قصيدة الهايكو على الرصد المباشر، وبلغة صافية، ودقيقة للظواهر الحياتية، وبين إمكانات السينما الهائلة في الرصد غير المُتكلف، وبلغة جمالية صافية، هي الأخرى في مواجهة الحياة.


أيضاً يجد كياروستامي في أشعار الكلاسيكيين الفارسيين قرابة فكرية وروحية، يقرأ التراث الشعري من منطلق معاصر وبعين الكاميرا. كما يشعر بارتباط عميق بحركة الشعر الإيراني الحديث. في عدد من أفلامه يقتبس بعض القصائد من الشعر الفارسي القديم (عمر الخيام كمثال) والمعاصر (سُهراب سيبهري، فروغ فروخزاد كمثال اختار منها عنوان فيلمه "ستأخذنا الريح معها"). وتأثره بالشاعر عمر الخيام نجده جلياً أكثر في فيلمه "طعم الكرز". يقول كياروستامي: "هل قرأت عمر الخيام؟ رباعيات هذا الشاعر والعالِم الفارسي العظيم، كُتبت في نهاية القرن 11 وبدايات القرن 12، وهي تأبين متواصل للحياة إزاء ما هو حاضر دائماً، إزاء الموت".

كياروستامي الشاعر، ترجمت له إلى العربية مجموعات شعرية عديدة، هي: "مع الريح" الصادرة عن منشورات "دار الكتاب"، و"ذئب متربص" عن وزارة الثقافة السورية، و"غزليات حافظ الشيرازي برواية عباس كياروستامي" عن دار "المدى"، و"على حواف الهايكو" عن دار "مسارات" الكويت.. والكتاب الأخير ولا نعرف ان وزعت نسخه في لبنان وبرغم اعلان مترجمه انه صدر.

يكتب كياروستامي باختزال كأنه يحمل كاميرا ويلتقط صورا فوتوغرافية. في ديوانه "مع الريح" - ترجمة شيرين بارسا، نلاحظ أنه استمرار طبيعي مكمل لطريقة عمله في المجال السينمائي. يحاول كياروستامي عبر قصائد قصيرة، المزج بين لغة الشعر(الهايكو) والسينما، ما جعل الكاتب ميشيل فرودون يسمي قصيدة كياروستامي: هايكو بصري.. في أحيان تغدو قصائد كثيرة أشبه بلحظات بصرية أو سينمائية حافلة بالتعابير: "الريح/ تفتح/ الباب العتيق/ وتغلقه عشرات المرات/ والباب العتيق/ يئن"، يكتب الشاعر، أو: "الفزاعة/ تتصبب عرقاً تحت قبعة الصوف/ في نهار يوم صيفي حار" أو: "الذباب/ يدور حول رأس بغل نافق/ وقت غروب الشمس".

في مجموعته "ذئب متربص"، ترجمة ماهر جمو، نقرأ في التقديم: "لا يقف كياروستامي عند حدّ إبداعي واحد. الصورة وحدها، بالنسبة إليه، لا تكفي. يرى في الكتابة الشعرية والألوان واللوحة امتداداً طبيعياً لمغامراته الفنية. يُدخل الكتابة والألوان واللوحة في لغة الصورة السينمائية أحياناً، فتتشكّل خلاصة أولى للمعاني الإنسانية المطلوبة". وكتب بندر عبد الحميد، في تقديمه لهذه الترجمة: إن اللقطات السينمائية "مكتوبة بالكاميرا القلــم"، وإنها مقبلة إلى الورقة في لمحات ذكية ومكثّفة، "على شكل إشارات برقيــة في جمل قصيرة خالية من الحشو"...

في غيابك أتحدث إليك
في حضورك
أتحدث إلى نفسي

ويكمل بندر عبدالحميد: "تلتقي رباعيات الخيام وشعر الهايكو الياباني ورؤى ناسك السينما الفرنسية روبير بريسون في كتابه النادر ملاحظات في السينماتوغرافيا والزوايا العالية لعين الصقر أو الزوايا المتحركة لعين "الذئب المتربص" وعين الكاميرا الذكية في القصائد - اللقطات التي كتبها كياروستامي":

مهر أبيض
ولد
من فرس سوداء
في مطلع الفجر.


أما كتابه "غزليات حافظ شيرازي" فهو ليس نصّاً عن الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، بل عبارة عن طريقة مغايرة للمألوف في قراءة أشعار حافظ وهو من سلسلة قراءات قام بها كياروستامي للشعر التراثي، منها شعر سعدي الشيرازي وجلال الدين الرومي، ولم تُترجم الى العربية الا قراءته لحافظ. وفي تعريفه بهذا الكتاب. ورأى المترجم أن كياروستامي "يسعى إلى محو الهالة الأسطورية الضبابية عن حافظ وتقديمه على انه كائن أرضي أولاً، وهو يحاول الكشف عن الحكم التي تزخر بها هذه الأشعار وتقطيعها بشكل يمنحها البريق الذي تستحق، والذي يرى كياروستامي أنها كانت قد حرمت منه ضمن الديوان الأصلي بفعل الموسيقى والقافية".

وفي جرأة لم يسبق لها مثيل بين كل الأعمال التي تناولت ديوان شاعر الفرس العظيم، يقوم كياروستامي بانتقاء شطور معينة من أشعار حافظ ويقطعها بشكل يبعد الكلمات عن الإيقاع والموسيقى وعن ذاكرتها التي كانت تملكها ضمن سياقها الأول، ليغيّر بذلك طريقة قراءتها، وتأملها بشكل مختلف ومن زوايا تمنح رؤية أكثر صفاء وحكمة على طريقة الهايكو. واختار كياروستامي تقسيم النصوص إلى فصول متقاربة، مثل: الحب والشباب، في مديح المحبوب، حلم الوصال، نسيم الفردوس، ليل الفراق، حزن الحب، رسالة إلى المعشوق، بشرى الوصال... وحينما نشر الكتاب العام 2006، واجه كياروستامي حملة غاضبة من الكتّاب والنقاد السلفيين، تتهمه بتشويه التراث، والمساس بقدسية هذا الشاعر الكبير الذي يعتبره الكثير من الإيرانيين واحداً من ابرز رموزهم. ولم ينج من مقالات بعض الشعراء العرب أيضاً. إذ اعتبر شوقي بزيع ان ما فعله كياروستامي جناية على الشيرازي، إذ "لا ينبغي أن يحجب عن عيوننا السلبية الأكثر خطورة على شعر حافظ، والمتمثلة في إخراج الجمل من سياقها الأصلي بحثاً عن المعنى، فالشعر، وشعر حافظ بالذات، ليس معنىً مجرداً بل هو نسق وزني وجمالي تلعب فيه الموسيقى والتواتر التعبيري والهندسة الداخلية". وكتب أحد النقاد السلفيين يقول: "ثمة من يقول إن كياروستامي يعبّر عن نفسه من خلال أشعار حافظ، وإن محاولته لعرض قصائد شاعر اكتسب طابعاً قدسياً في الذاكرة الجمعية الإيرانية، في قالب الهايكو، عمل غير مقبول، ولا ينتمي إلى الحداثة..". وكان  الكاتب والناشر، بهاء الدين خرمشاهي، كتب مقدمة يقول فيها: "ما يميز عملك هو أنك تناولت الأبيات غير المشهورة من أشعار حافظ، والتي لم تتحول إلى أمثال شعبية وسلطت عليها الضوء، وفي المحصلة فإن عملك هو تنوع مهم في الشعر وفي دراسة أشعار حافظ".

يرى كياروستامي أن إحدى المشاكل التي تواجه الإيرانيين في فهم الشعر، تكمن في أنهم يوجهون الكثير من العناية إلى الإيقاع. يعتقد بأن في قراءة قطعة من الشعر، لا ينبغي للمرء أن يركّز بؤرته بإفراط على الأنماط المتسمة بالتكرار للأصوات، لأن المرء بهذه الطريقة سيقصر عن بلوغ الإدراك وفهم المعنى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها