اختارت جريدة "العربي القديم"، وهي صحيفة شهرية تعنى بالتاريخ السوري والعربي وتستعيد ذاكرة الصحافة العابر للأجيال، اختارت أن تخصّص العدد الحادي عشر- أيار/مايو 2024 عن القاص السوري، زكريا تامر "الذي أحرق السفن"، الغائب قسراً في منفاه من بعد صخب ومواقف "مهمازه" أو تلك الفقرات التي كان ينشرها في الفايسبوك. والغياب، يرجح أنه يتعلق بتقدم السن، وما آلت إليه الأمور. وربما خيار.
ويستحضر العدد مقالاً نشره تامر قبل أربعين عاماً في مجلة "الدوحة" القطرية، بعنوان "الغضب الجميل المنسي"، يقرأ الواقع العربي واحتمالاته، يهجو زمن القرود، ويستهله بأن "استقلال الأوطان نوعان: استقلال يطرد الأجنبي المحتل كي يبني الوطن ويطور المواطن، واستقلال يرغم الموطنين على الحنين الى أيام الاحتلال والمحتلين". وفي المقال شيء من شيء من التشابه مع أدبيات محمد الماغوط الغاضبة، ويعتبر الناقد محيي الدين اللاذقاني أن الأمر كان يتطلب شجاعة استثنائية، ليقال هذا الكلام في ذروة سيطرة العصابة الأسدية على سوريا بعد مجزرة حماة، و"الأخطر" من ذلك أن يكتبه أديب دمشقي. ربما يكون السؤال من هو الدمشقي؟ ولماذا التركيز على الدمشقي بوصفه هوية واحدة؟
ونشرت الجريدة تفاصيل أول معركة نقدية حول أدب زكريا تامر... فقبل أن يصدر تامر أولى مجموعاته القصصة "صهيل الجواد الأبيض" العام 1960، اندلعت في صفحات مجلة "الآداب"(الآفلة) أواخر العام 1959، أول معركة نقدية حول أدب ذكريا تامر... بعد نشره قصة بعنوان "قرنفلة للأسفلت المتعب" وقد تلقفتها بالنقد في العدد الذي يليه، الشاعرة العراقية الشهيرة نازك الملائكة، متهمة إياه بالدعوة إلى "هدم الأخلاق العربية، سواء أكان الكاتب يقصد أن يدعو لذلك، أم كان يكتب وهو غافل لمجرد أنه ينساق مع دعوة خفية، يبشر بها أناس من وراء ستار!". وهو ما دفع المفكر الدمشقي، مطاع صفدي، للرد عليها متهماً إياها بالتعصب، قائلاً: "أقول لنازك أن فهمها للإنسان العربي على أنه كائن عاقل ايجابي، محب لمدينته، يحيا بسلام مع الله والتقاليد والشارع، وأنه بطل، قوة كله، تفاؤل كله، فتحٌ مبين دربه، عالم من الشعر والصبح والزهر واقعة، هذا الفهم لبطلنا يجعل منه بطلاً عسكرياً كرتونياً، نقدمه الى أطفالنا في مدارسنا الابتدائية. أنه في الواقع نوع من "العناترة" الجدد، التي لا تعيش إلا في مخيلة سكونية لا علاقة لها بمأساة البطل العربي الحقيقي". عدا إيراد المعركة النقدية التي أصبحت في عُرف البعض ديناصورية، و"دقة قديمة"، هناك مقالة لمحمد الماغوط صديق تامر وجليسه في مقهى الهافانا الدمشقي، كتبه في مجلة "الناقد" الآفلة بعنوان "حداد في وطن الفخار"، وفصل من رسالة دكتوراة كتبها بدر الدين عرودكي "زكريا تامر عالم الرماد والحرائق".
القراءة في مسيرة زكريا تامر وتجربته ولغته ومواقفه والتباسات جيله، وبغض النظر عن تمرّده واستعاراته الكثيرة والجريئة واللامعة عن الإستبداد بكافة أشكاله وكسره بديهيات السرد والترميز والعجائبية، القراءة تنبه المرء أو القارئ لخطر ثقافة البعث الأسدي التي تتغلغل في كل شيء من الكتب إلى المجلات الثقافية والتلفزيون والشارع والمسرح والسينما وحتى قصص الأطفال. فزكريا تامر صاحب "الرعد" و"النمور في يومها العاشر" و"شاعر القصة"، في الوقت الذي كانت فيه منظمة "طلائع البعث" التابعة للحزب الحاكم في سوريا، تؤمم الطفولة، وتعلّم الأطفال أن منتهى نجاحهم أن يكونوا نسخة واحدة، مدجنة، في الزقفة الطلائعية والوقفة والانضباط وفي محبة "الأب القائد" و"القائد الخالد" و"الرفيق الأمين العام". زكريا تامر، "الحداد الدمشقي"، في كل ما كتب للأطفال، "يعلمنا قيم الحرية، وكانت قصصه على ألسنة الحيوانات تقول لنا الكثير عن معنى التفرد".
زكريا تامر كان من المؤسسين اللامعين، أتى في زمن مجلة "شعر" و"الآداب"، أحدث نقلة نوعية في القصة السورية الحديثة، بعد عبد السلام العجيلي، وحسيب الكيالي من جيل الخمسينات، السهل الممتنع واللماح الجريء، "أبى أن يصير نمراً مروضاً في قفص استبداد بحجم سوريا كلّها". من إنجازاته أو بطولاته، وهي حقاً بطولة في خضم نظام الأسد، أنه كتب افتتاحية مجلة "المعرفة" في الذكرى الخامسة لحرب تشرين، ولم يذكر "الرفيق المناضل حافظ الأسد"، لا في العنوان ولا في النص، وبدلاً من التغني ببطولات الحرب التي كانت مقدسة في تلك الفترة، تحدث عن ضرورة إعطاء المواطن الحرية. وحين ودّع مجلة "المعرفة" التي ترأس تحريرها في وزارة الثقافة، بافتتاحية له (يجدر بنا التكهن كيف أصبح رئيساً للتحرير في ظل نظام الأسد؟)، لم يكتب فيها كلمة واحدة، بل اكتفى بنشر مقطع من كتاب "طبائع الاستبداد"، لعبد الرحمن الكواكبي بدلاً عن افتتاحيته.
وتنقل "العربي القديم" أن الجهات الأمنية اعتبرت نشر هذه المقتطفات، فيما تشهد البلاد مواجهة ساخنة مع معارضة مسلحة وتعيش تحت الطوارئ، هو عمل تحريضي يؤجج المشاعر، ما دفع بوزيرة الثقافة آنذاك، نجاح العطار، إلى استدعاء زكريا للتحقيق معه. لكنه قدم استقالته من رئاسة تحرير المجلة، التي احتجبت عن الصدور في شهر حزيران/يونيو 1980، وقد حُذف اسم زكريا تامر، وعُلِم لاحقاً أن النظام السوري منعه من الكتابة داخل سوريا والنشر خارجها، ما أدى إلى مغادرته دمشق متوجهاً إلى لندن في العام نفسه، وقال إن السبب الظاهر لتركه دمشق هو منعه من النشر والكتابة. لكن السبب الأعمق والأساسي، هو أن معركة دامية نشبت قرب بيته بين رجال المخابرات وعضو مطلوب من "الإخوان المسلمين"، الذي، وعندما نفدت ذخيرته، أقدم على تفجير جسده بقنبلتين يدويتين، وظلّت اشلاؤه أكثر من ساعتين مرمية في الشارع، يلهو بها الاطفال. عندها، شعر زكريا تامر أنه في عالم يعجز عن فهمه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها