أتسلّى كثيراً في متابعة بعض الأفلام أو مقاطع الأفلام(ريلز) التي تصوّر مملكة الأسماك في البحار والأنهار، أو عالم الطيور والزواحف، أو الحيوانات الجامحة والضارية في الغابات والحدائق الكبيرة في جنوب أفريقيا وبلدان أخرى. ومرات لا أستطيع متابعتها ربّما لأني "من ذوي القلوب الضعيفة". ما يلفتني في العالم هو المفارقات والألغاز التي رّبما لا نقدر على إيجاد تفسير لها، ونشعر في مكان ما، كأنها مركبة تركيباً وخاضعة لسيناريو الأفلمة واللعب، فعدا شريعة الغاب، والقوي يأكل الضعيف، السؤال يروادني في اللاوعي عن المخلوقات لماذا الهدهد الجميل نتن الرائحة؟ ولماذا اللقلق يختار واحداً من بين صغاره ويقتله؟ ولماذا فرخ النسر يقتل شيققه؟ ولماذا تزاوج الحسون والكناري ينتج نغلاً؟ ولماذا طائر الحباري أشد بلها بين الطيور لأن أثناه تترك بيضها وتحضن بيض غيرها؟ لماذا يضع طائر الوقواق بيضه في عش غيره مثلاً، ولماذا فرخ الوقواق غريزيا يرمي فراخ أو بيض الطير صاحب العش ويبقى وحده طفيلياً ينتظر الطعام، وغالباً ما يربى في أعشاش الطيور الصغيرة، فحين تطعمه العصفورة يكون المشهد سوريالياً وغرائبياً، نظراً لضخامة حجمه مقارنة بصغر حجم العصفورة الام.
"ذكاء" الغراب أكثر أدهاشاً من طفيلية الواقواق، هذا الطائر الذي أحيكت حوله الأساطير والقصائد واللعنات، نندهش حين نتأمله وهو يحاول أن يصل الى الماء في قنينة زجاج، أو حين يرمي حبات الجوز تحت عجلات السيارات لتكنسر، أو عندما يضع الفخوخ ليصطاد السمك... لا غرابة أن يقال إن هذا الطائر الضعيف هو الذي علم الإنسان دفن الموتى. وقيل "العرب تتشاءم بالغراب ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب"("حياة الحيوان الكبرى"- الدُميري) وكتب عنه إدغار الن بو قصيدته الشهيرة. وهناك عشرات النصوص التي تسعير حبر الغراب.
الحيوانات المتوحشة أو المفترسة، يصعب تفسيرها ويسهل فهمها في الوقت نفسه باعتبار أنها حيوانات، هناك نوع من الفهود مختصة في صيد التماسيح، يلقطه من عنقة فيقتله في لحظة ويأخذه وليمة دسمة، في المقابل يرد مشهد لعشرة أسود(ملوك الغابة) عاجزة عن اصطياد تمساح... يستند الفهد في هجومه إلى نقطة الضعف التي يمسك بها التمساح، بينما تجرّب الأسود قوتها التي لا تناسب. نفهم أنّ السبع أو الفهد يصطاد فريسته (غزلان على الأكثر)، يحملها بفمه بين أنيابيه الحادة صاعداً إلى الشجرة الكبير والعالية برشاقة وسهولة القط، لتكون له وحدة دون سائر المنافسين، لكن لا نفهم خوفه من الضبع أو جوقة الضباعين، اذ غالباً ما يصطاد الفهد غزالاً أو خنزيراً ويأتي الضبع ليسرقه منه بسهوله، وليس لدية قدرة على مواجهته، بينما الاسود تفتك بالضباع فتكاً. هناك لغز أن الضباع والكلاب البرية تلتهم فريستها وهي حيّة دون أن تقتلها(يقال الضبع نابش القبور). يمكن رصد انتحارية النمس في مواجهة الأفعى، وعائلية الذئب، ووفاء الكلاب، وشجاعة غرير العسل، وعطف فرس النهر، الكل في المجمل يصارع من أجل البقاء، الغزال يسرع هارب لينجو، والنمر يسرع خلفه ليتقطه وينجو، ولكن في النهاية الكل يمشي في مسار السيزيفية..
حتى القراءات عن عالم الحيوان مسلية من "حيوان" الجاحظ، إلى "كليلة ودمنة" وابن المقفع و"عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للعالم والجغرافي أبي عبد الله بن زكريا القزويني، و"المخلوقات العجيبة" لخورخي لويس بورخيس وفيه وفي كتب أخرى مثل الف ليلة وليلة، ننتقل من حديقة حيوانات الواقع، إلى حديقة حيوانات الأساطير. من السنتور، وهو مزيج حصان وإنسان، الى المونتور مزيج ثور وإنسان (دانتي تخيّله بوجهٍ آدمي وجسم ثور) الى الجنيات من إيرلندا والغزالات في النرويج والحورية شيلا وطائر الهندوس المقدس غارودا. الى الرُخّ طائر أسطوري هائل الحجم، تذكر بعض الروايات أنه قادر على حمل وحيد القرن، وقد ورد ذكره في رحلات السندباد البحري في كتاب ألف ليلة وليلة. وفي رحلة ابن بطوطة عند حديثه في رحلة خروجه من الصين إلى الهند. كتب "داود الأنطاكي" في وصفه التالي: "الرخ طائر منه ما يقارب حجم الجمل وأرفع منه وعنقه طويل شديد البياض مطوق بصفرة. وفي بطنه ورجليه خطوط غبر. وليس في الطيور أعظم منه جثة. وهو هندي يأوي جبال سرنديب وبرّ ملقه. يقال: إنه يقصد المراكب فيغرق أهلها. ويبيض في البر فتوجد بيضته كالقبة".
والنسناس مثلاً، هذا الكائن الذي هو نصف انسان بعينٍ واحدة، وخد واحدة، ويد واحدة، وساق واحدة، والسمندل: طائِرٌ إذا انقَطَع نَسْلُه وهَرِم أَلْقَى نفَسه في الجَمْر فيعود إلى شَبابه. ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها. وإذا اتسخ جلده لا يغسل إلا بالنار وكثيرا ما يوجد بالهند، وهي دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل، ينسج من وبرها مناديل، إذا اتسخت ألقيت في النار فتنصلح ولا تحترق. وزعم آخرون أن السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ في النار، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام. فإذا اتسخ بعضها، طرح في النار فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل"..
وهذه الكائنات الخرافية قد تكون مؤسسة للخيال الروائي.
يصعب تفسير غرائز الحيوانات باعتبار أنها بهائم لا عقل لها، لكن هل من تفسير لحيونة الانسان (الحيوان الاجتماعي) من خلال متابعة نشرة الأخبار في المساء، الزاخرة بعالم القتل والحرب والاغتصاب والنهب والجشع المالي والبيئي. إن عالم القمع المنظم، منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالمٌ لا يصلح للإنسان ولا لنموّ إنسانيته، بل هو عالم يعمل على "حيونة" الإنسان (أي تحويله إلى حيوان). حول هذا الموضوع كتاب "حيونة الإنسان" للشاعر السوري ممدوح عدوان. ويقول الكاتب بأن الاشتقاق الأفضل للكلمة هو "تحوين الإنسان"، إلا أنه خشي ألا تكون الكلمة مفهومة بسهولة. الكاتب يعترض على استعمال توصيف الحيوان للانسان فهو يقول ان الإنسان ابشع من الحيوان فالحيوان لا يغتصب ولا يُعذب بني جنسه ولا يقتل خصمه في المعركة إن إستسلم فالإنسان أشد شراسة من الحيون.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها