الجمعة 2016/05/27

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

"أن لا نكون.." لرانيا اسطفان: زوال بين صورتين وأكثر

الجمعة 2016/05/27
increase حجم الخط decrease
لا يمكن لزائر معرض رانيا اسطفان، "عن أن لا نكون أبداً مجرد واحد" (غاليري المرفأ-حتى 31 آب)، سوى أن يتنبه إلى أن أغلب الصور، التي يشتمل عليها، تنبئ بأفولها، الذي تحاول المخرجة، بما هي فنانة، الإمساك به، أو إبانته على وجه الدقة. ولفعلها هذا صلة بالسياق، الذي اندرجت فيه صورها تلك، بحيث أنها عملت عليها خلال الفترة الواقعة بين العام 2011 والعام الحالي، أي بين فيلميها "إختفاءات سعاد حسني الثلاثة" والجزء الأول من ثلاثية "ذاكرة لمفتش وحيد". تالياً، استخلصتها وركبتها بالتدقيق والتنقيب، بحثاً عن العلاقات المرئية واللامرئية التي تستوي بينها، جاعلةً إياها تدور حول الإنقضاء والإنقطاع عن الحضور.

توزعت الصور على سلسلتين. الأولى منها، بدت كأنها مأخوذة من أشرطة VHS، وقد ارتكزت مشاهدها على لحظاتٍ، تشير إلى زوال أو إنصرام. فالطفلة التي تقف على حجر من أحجار إحدى القلوع، تظهر شبه ممحية، لدرجة جلاء الموجود خلفها. إذ أنها واقفة على اندثارها، تماماً مثلما أن المشهد، الذي يقوم بها، ينهض على تلاشيه، وعلى هذا النحو، يولد التوائم بين حركتهما التي تفيد بالإضمحلال. ذلك، على عكس صورة أخرى، حيث تركض الطفلة المرتدية الأحمر في أرض مزروعة بالأشجار، التي قتم لونها. ثمة داخل هذه الصورة، تعارض بين حركة الطفلة، التي تسرع الخطى صوب اليمين، والأشجار، التي، وعلى الرغم من كونها ثابتة، تبدو كأنها في مطاف انزياحها نحو اليسار، وهذا التناقض بينهما، يؤدي إلى نزاعهما غير الفظ، والذي يصح القول فيه بأنه إدبار الحركة عن الحركة.

تضاعف اسطفان التناقض في السلسلة الثانية، التي تتألف معظم أطرها من صورتين متجاورتين أفقياً أو عامودياً. على ذلك، لا تعود العلاقة مستوية بين عناصر الصورة الواحدة، بل بين صورتين مختلفتين. ففي احد الاطارات، وضع مشهدين مدينيين فوق بعضهما البعض، وقد ظهرا قريبين من ناحية التكوين مع فوارق عدة طبعاً، لكن، قربهما، يوفره حال الضوء فيهما، بحيث أنه يمضي الى اختفائه في اثر الليل النازل. وفي إطار آخر، هناك، من جهة، صورة ملتقطة في متجر، ومن جهة اخرى، صورة مأخوذة للسماء فوق شارع ما في وقت المغيب. تتصل الصورتان على أساس لون الغروب، الذي اما يظهر على وقوعه أو على تجسده في الطلاء الذي يزين جدران المحل.

لا وجود لصورة واحدة، تقول الفنانة عبر معرضها، لا وجود لهذه الصورة، وحتى لو كانت منفصلة عن غيرها. ذلك، أنها، وباستمرار، تتشكل بالإنطلاق من علاقات عناصرها ببعضها البعض، وهذه العناصر تتصل وفقاً للحركة التي تؤلف كليتها. ولا وجود لصورة جامدة أيضاً، وحتى لو كان مشهدها متوقفا على لحظة محددة. فمن الممكن استنباط لحظة أخرى منها، لحظة غير معينة، ومن ثم اخراج فضائها، والكشف عن الكامن فيه، عن القوة التي يحتويها، أي زواله، الذي يسمح لأي شيء أن يحدث داخله.

من هنا، تصبح مشاهدة الفيلم القصير الذي تعرضه اسطفان الى جانب صورها سانحاً. اذ أنه، وتحت عنوان "64 غسقاً"، يتكون من صور متحركة، التقطتها المخرجة اثناء تقصيها عن انتحار سعاد حسني بسقوطها من شرفة الطابق السابع في ابراج ستيورات في لندن. دارت عدسة اسطفان في الشارع، صوّرت مبانيه، وأظهرت خلوه وإياها من الناس، كما لو أنه مأهول بالغائبين، وفي مقدمتهم حسني نفسها. في هذا الفيلم، تتلاحق الصور، تتابع، ولا تتوقف الحركة عبرها، وذلك، رغبةً في معاينة واقعة الانتحار، التي حدثت في الماضي، ومع ذلك، تبدو في اثر دوران الكاميرا في مجالها، كأنها ستحدث لاحقاً. فالزوال الذي يطبع المكان وزمانه، يسمح لهما بالإنفتاح على أي حال تنم عنه، كالغياب، والفقدان، مثلما أنه يجهزهما ليتحولا الى فضاء اي واقعة آتية، كالموت مثلاً.

يتضح الزوال على طول الصور، التي، وبدورها، تنطوي على صور أخرى، وما اتضاحه فيها سوى أثر من آثار التقاطها وتركيبها. فصحيح أن رانيا اسطفان اعتمدت الإنشاء الجدلي بين الصورة المتحركة والصورة الجامدة، إلا أنه يتعدى التناقض إلى التحلل، بحيث أن كل صورة تحمل تخلخلها، وهذا ما يجعلها ملتقطة على محمل تلاشيها، وبالتالي، إفلات الحركة منها. ففي إثر زوالها، تتكاثر، وفي إثره، تتحرك، فلا تعود "واحدة" ولا تعود إلى "أنا"، بل إلى جميع الآخرين الذين رحلوا، والذين سيقبلون.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها