الأربعاء 2016/12/28

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

"الآنسة سلون": هكذا تعمل جماعات الضغط الأميركية

الأربعاء 2016/12/28
increase حجم الخط decrease
لن يضرّ في شيء أن تطّلع قليلًا على القوانين التي تحكم أعمال وممارسات جماعات الضغط (lobbies) الأميركية قبل الشروع في مشاهدة فيلم "الآنسة سلون"(*) للمخرج الإنكليزي جون مادن، ولكن إذا استصعبت محاولة الوصول لإجابات شافية حول طبيعة عمل تلك الجماعات فلا تجعل ذلك يقف حجر عثرة أمامك، وحاول مشاهدة هذه الدراما السياسية للاقتراب قليلا من غموض وتعقيد عمل تلك الجماعات التي تقوم بدور لا يستهان به في عملية صناعة القرار، وفي ظلّ ما أفرزته الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة تكمن أهمية مضافة للفيلم، إذ تصعب مشاهدته من دون محاولات لربطه بالتراجيديا الكوميدية السياسية الرديئة التي شهدتها جولة الانتخابات بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب.

الفيلم، الذي يتخذ من العاصمة الأميركية مسرحاً له، تدور أحداثه في قلب عالم فقاعي مسموم بازدواجيته، ولا يتوقف عن القيام بوثبات ماراثونية بين اجتماعات ومكاتب وشاشات تلفزيون واستديوهات، وطبعًا بين جماعة ضغط وجماعة أخرى. غالبًا ما تجري المياه داخل تلك الدوائر بصورة متوازية وبطريقة غير مقصودة ولا يدرك قابلية حدوثها سوى العاملين داخل تلك الجماعات. ومَن هؤلاء؟ مجموعة من الحيتان المتأنقة ببزّات أنيقة، نتعرّف فيهم على ميشيل ستولبرغ، وسام واترسون، وآليسون بيل. الاختلاف الرئيسي بين هؤلاء الطامحين الأبديين للفوز، وبين الحيتان الحقيقية التي يعملون لصالحها هو أن الأخيرين يخرجون إلى الهواء في أحيان كثيرة، بعكس الموظفين الذين يعملون في الظل.

ملكة الحيتان المكتبية، هي إليزابيث سلون، ببشرتها الخزفية وعينيها الجليديتين اللتين يظهر تأثيرهما من قبل بداية الفيلم أصلاً. إنها جيسيكا شاستاين، إذ تقوم بدور المرأة التي يحمل الفيلم اسمها: امرأة مهووسة بعملها، وبالامتداد، بنفسها أيضًا. في السنوات القليلة الماضية، برزت شاستاين كواحدة من أكثر الممثلات الأميركيات جاذبية وموهبة، بعدما جاءت إنطلاقتها الحقيقية في العام 2011 بدءا من ظهورها في فيلم "شجرة الحياة" لتيرانس ماليك وترشّحها في العام نفسه لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثلة مساعدة في فيلم "المساعدة" للمخرج تيت تايلور.

وفي دورها في "الآنسة سلون"، تؤكد الممثلة الشابة على استمرارها في مسيرتها التمثيلية الناجحة، من خلال تأديتها لشخصية امرأة تعمل في لإحدى جماعات الضغط، يعتبرها الكثيرون الأفضل في مجالها وتحظى بنفوذ واسع وسيطرة بالغة يجعلانها هدفاً لجماعات مناوئة تؤيد تجارة الأسلحة واقتنائها على مستوى الأفراد، داخل الولايات المتحدة الأميركية. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فإلى جانب صراعها للنجاة من حكم بالإدانة يتعلّق بفضيحةٍ سلوكية ربما تنهي مسيرتها المهنية، لديها الكثير لتقلق بشأنه في حياتها الخاصة، الخالية من الحب والمعزولة في وحدة مطبقة وقاسية. الطريقة التي تتلبّس بها شاستاين شخصيتها في الفيلم، بما يستلزمه ذلك من تنويع في الانفعالات وسيطرة على الأداء الجسدي والنفسي، تجعلها أبرز وأبقى ما في الفيلم.

منذ اللحظات الأولى للفيلم، تجلس سلون، واثقة، في مواجهة الكاميرا، بينما يحاول المشاهد استبطان استراتيجيتها دائمة الاخضرار في الاحتفاظ بورقتها الرابحة، حتى يكشف خصومها أوراقهم. لاعبة بارعة تحاول إحكام قبضتها على مجريات اللعبة، وتجيد تحريك قطع الشطرنج بدقة قبل أن يتسنّى لخصومها ترتيب قطعهم. بزّتها "الذكورية" الوقورة تخبرنا عن مبلغ كبير ذهب في سبيل شرائها، وشَعرها المُسرّح بصرامة يخبرنا بالمثل. كل خطواتها محسوبة، وكل حركة هجومية منها لا تنفذّها إلا بعد حساب العائد منها، لا مجال لديها للتفكّه أو التباسط مع الناس. إليزابث سلون، كما يظهرها الفيلم، جيدة للغاية في أداء وظيفتها الباعثة على أسى الكثيرين، امرأة أعمال نافذة تملك مقومات تجعلها جديرة بالفوز في معاركها الجانبية مع الأغبياء من حولها، ربما يعتبرها أقرانها باردة المشاعر ومتكلّفة أو متحفّظة، لكنها تواظب على عملها بتفانِ نادر يمنعها من النوم أحياناً. حديثها مقتضب ولا ينقصه الكلام اللاذع. تتصدّى شاستاين لأداء الدور بقدرٍ كبير من الشجاعة والنجاعة، يليق بشخصية تقف دائماً على حافة فعل شيء ما، ربما يكون إلقاء خطبة لاذعة أو اصطيادها في مجانسة لافتة مع ديكور الغرفة، أو ربما لحظة تظهر فيها مبالغة كتابية من سيناريست الفيلم.

"الآنسة سلون" فيلم لا يريد أن يكون مضحكاً، بإصراره على التمرّغ  في ظلام السياسة والفساد ووقائع طعن الخصوم من الخلف. ومع ذلك، بين الحين والآخر، لدينا مساحة لسماع بعض النكات اللفظية بين شخصيات الفيلم تليق بطلاب جامعيين يتبادلون المرح في أوقات فراغهم. وأغلب الظن أن هؤلاء موجودون هنا لتذكيرنا بأن بالوعة العاصمة الأميركية تبدأ بنماذج مشابهة ممتلئة بحيوية الشباب ومثاليتهم. الخِفّة التي يأتي بها مزاحهم تستحضر، بطريقة غامضة، سجالات سلون مع خصومها، لكن فكرة إغاثة حِدّة الفيلم، وسوداويته، بتلك الإضافات الكوميدية، ليست مطروحة على الطاولة بكل تأكيد.


"الآنسة سلون" موجود لتذكيرنا، وتذكير الأميركيين من قبلنا، في سنة شهدت انتخابات رئاسية كارثية بامتياز، بأن قيادة الجماهير تمر عبر تفويض منهم بالعبودية المختارة، لحاكم يعدهم بأشياء بعيدة المنال، فضلاً عن نتائجها غير مضمونة العواقب، وهي فكرة قديمة جداً ولا تتماشى مع السياق الأميركي. أن تختار أعداءك بصورة صحيحة، أو تخلقهم من العدم، ثم بعد ذلك تتفرّغ لتخطيط رحلة سقوطهم، هو مربط الفرس الذي يؤشر إليه الفيلم. وفي مسعاه لبيان تلك الفكرة، يلتقط الفيلم الاستقطاب الحاصل في أميركا مؤخراً حول موضوع الحدّ من حرية امتلاك المواطنين للأسلحة.

بالنسبة للأداءات التمثيلية في الفيلم، تبرز الممثلة جوجو مباثا-روو في دورها كواحدة من زملاء سلون الموهوبين في عملهم، فهي تلك الشخصية النادرة التي تمتلك وعياً ذاتياً وأسراراً قلقة. يسود الجفاء علاقتهما في البداية، من دون أن تستطيع روو منع نفسها من الانبهار بشخصية زميلتها الجديدة، قبل أن تدرك قابليتها لتجاوز حدود الندّية المهنية في سبيل نجاح "القضية". ومن بين الإنقلابات الدرامية العديدة (twists) في الفيلم، يأتي ذلك المتعلق بمسألة امتلاك الأسلحة والمتقاطع مع الخط الدرامي لشخصية روو كأكثرهم فعالية. وفي اللحظة التي يبدو أن الفيلم أعلن إنحيازه لجانب معين من طرفي الصراع الدرامي؛ حينها فقط يبدأ فصل جديد في حكايته غير متوقع بالمرة.

"الآنسة سلون" فيلم مثير للإعجاب بشكل عام، باحتوائه على مجموعة من المشاهد القوية التي تؤكد المقولة القديمة للمخرج الكبير هوارد هواكس بأن "الفيلم الجيد يجب أن يحتوي على ثلاثة مَشاهد جيدة على الأقل". لكن هل الفيلم خالٍ تمامًا من المَشاهد السيئة؟ بالطبع لا.

يمتلك الفيلم صورة مبهرة مُنجزة بمزاجية ودقة، كما يساهم الأداء القوي لغالبية طاقم التمثيل في تأكيد حضوره في موسم الجوائز القريب، خصوصاً شاستاين. ويستطيع مخرجه، الذي لا يحمل أرشيفه المهني السابق فيلماً أهم من "شكسبير عاشقا" (1998)، اعتباره أفضل أفلامه منذ فترته الذهبية في التسعينيات تحت رعاية شركة ميراماكس. لكن هذا لا يعني نجاح الفيلم في استيفاء كل شروط الفيلم الناجح، فالفيلم ليس جديداً كلّية، ولا يقدّم طرحاً ذكياً لكل موضوعاته الفرعية بالقدر الذي قد يتصوّره البعض. كذلك، فإن النهج الدرامي الذي يتعمّده في الكشف عن العيوب أو النواقص البشرية العادية لشخصيته الرئيسية، سلون، ليس كافياً للفوز بقلوب المشاهدين وجذبهم إلى التعاطف مع "جانبها الإنساني". وإذا حاولنا القيام بإعادة مونتاج لكل اللحظات المفتاحية لشخصيات الفيلم الثانوية/المساعدة، على طول عملية التفكيك التي ينتهجها الفيلم، فغالباً لن نحصل على إجابة واضحة من ماضي الشخصية تبرّر ما نراه على الشاشة.

ومثلما يصوّر الفيلم جماعات الضغط والسياسيين والحيتان الأخرى في صورة الأشرار الميكافيليين؛ فإن حكايته لا تتسامى عن اشتمالها على بعض الإيماءات غير الموفّقة حول حرصه على الصالح العام، وهو الادعاء الذي غالباً ما يصّدره أولئك الذين ينتقدهم الفيلم.

"الآنسة سلون" ليس حكاية أخلاقية بالكامل، وليس نقداً هجائياً على الطريقة القديمة. لكن لا يمكن إهمال كونه يجمع في سلة منتجيه، مجموعة من صائدي الجوائز الموسمية، كانال بلس وسيني بلس وترانس فيلم وفيلم نيشن وفرانس 2 سينما، ويحتوى في ثناياه الكثير من خطابات الورع السياسي. وفي اللحظات الأخيرة تحديداً، يبدو الفيلم هائماً في فوضى حقيقية، لأنه يتحوّل ببساطة إلى مساحة لإثبات موقف سياسي، مثلما نرى في المتتالية السردية التي تستقيل فيها سلون من عملها حين يكلّفها رئيسها بتمثيل إحدى جماعات الضغط الكبرى الداعمة لامتلاك الأسلحة الفردية، لتعمل في شركة صغيرة تسعى بدورها إلى إقرار قانون للسيطرة على انتشار الأسلحة. ورغم هذه العيوب، وفرص الفيلم القليلة في الحفاظ على طزاجة مادته في المستقبل القريب؛ يظلّ "الآنسة سلون" جديراً بالمشاهدة، الآن وفوراً.


(*) يُعرض حاليا في سينما "متروبوليس- أمپير صوفيل"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها