الأحد 2016/12/25

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

"أصوات المساء".. مشاهد من الواقعية الإيطالية

الأحد 2016/12/25
increase حجم الخط decrease
"عندما نرى الأشياء المستقبلية بوضوح شديد، كأنها تحدث بالفعل، فهي علامة على أنها يجب أن لا تحدث أبداً، لأنها قد حدثت بالفعل، بطريقة ما، في خيالنا، ولم يعد من المسموح تجربتها فعلياً".

هذا ما تستخلصه "إلسا"، الفتاة ابنة السابعة والعشرين من عمرها، وبطلة رواية "أصوات المساء" للكاتبة الإيطالية نتاليا جينزبورج(*). فما يكمن في خيالها عن علاقة حب مثالية وسعيدة مع الشاب "تومازينو، وهو ابن البلدة ذاتها التي تعيش فيها "إلسا" والتي ترعرعا وعاشا فيها. تومازينو هو ذاك الشاب الذي تعتليه حالة من اليأس والكآبة من الواقع والمجتمع الذي يعيش وينتمي إليه ويؤطره، والذي يرى في تكرار ما فعله ويفعله أخوته ووالديه وسائر سكان البلدة من زواج تقليدي وسعي لكسب المال، وإنجاب الأطفال لم يعد له أي جدوى من وجهة نظره.

 يبدو أسلوب الكاتبة للوهلة الأولى بسيطاً للغاية، لكن سرعان ما يكشف عن ذكائه وحرفية صناعته، فالكاتبة تضعنا منذ بداية القصة مع "إلسا" التي تعرف عن نفسها بأنها تعيش في هذه البلدة مع عائلتها وتشير إلى تذمر أمها منها لأنها لم تتزوج بعد. لكن سرعان ما تنتقل إلسا إلى سرد قصة عائلة أخرى.

إلسا الراوي / والسارد لقصة البلدة، وعلى وجه الخصوص قصة ونشأة عائلة "دي فرانتشيشي" والذي يملك مصنع ينتج القماش؛ تعيش وتعتمد عليه كل البلدة، وانطلاقاً من دي فرانتشيشي وهو الملقب بـ "بالوتا المسن" والولد الذي اليتيم الذي ربّاه من الطفولة، وهو أحد أقاربه من بعيد "فاوستو" والملقب باسم "البوريللو"، وأولاده "فينتشينزو" و"ماريو"، "وجيمينا"، "رافايلَّا " وانتهاءاً بتومازينو الأبن الصغر.

وفي سرد يتداخل فيه الزمن ضمن سياق حاضر كل شخصية وماضيها، سيغيب تارة صوت "الراوي / إلسا" ويعود، ليحل محلها حوارات تدور بين شخصيات الرواية. والقارئ هنا ليس إلا مراقب ومتابع للحياة اليومية التي عاشها أناس تلك البلدة، تماماً كمن يشاهد أحد الأفلام الإيطالية التي تنتمي لمرحلة "الواقعية الإيطالية" التي ظهرت في في الأربعينات (1942-1961) في فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها -  وهذا ما يتقاطع مع الفترة الزمنية التي كتبت فيها الرواية ( 20 مارس – 12 ابريل 1961 ). كما أن هذا الطريقة في السرد في عدم  تفسير ما يحدث أو تأويله من قبل الكاتب وترك الشخصيات تعبّر عن نفسها من خلال "الأفعال التي يقومون بها والكلمات التي يقولونها"، كما يعلق الكاتب الأيطالي إيتالو كالفينو في معرض كلامه عن الرواية، تخلق مساحة لمخيلة القارئ بأن تتفاعل مع تلك الشخصيات وتجعله حراً في حكمه على كل شخصية.

ما هو مثير أيضاً أن إلسا في حديثها عن عادات وتقاليد البلدة وإضافة للقصص وحكايات "بالوتا المسن" وأولاده، لا تخبرنا من بداية القصة أنها على علاقة بتومازينو إلا بالثلث الأخير من الرواية، وليدرك القارئ أن إلسا وتومازينو وعلاقتهما التي لم يكتب لها أن تكتمل، ليست سوى التجسيد لأفكار وهواجس كل من يعيش في بلدتهم ولم يتجرؤ على أن يعيشوا بخلاف الحياة التي عاشها ويعيشها آباءهم وهذا ما يقوله في أحد الحوارات الأخيرة بينهما "في هذه الشهور، دفنت كثيراً من أفكاري. حفرت لها حفرة صغيرة". وفي مقطع آخر يقول: "في لحظة ما، لا يرغب المرء في مواجهة مافي أعماق نفسه. لأنه يشعر بالخوف، بأنه إذا واجهه، فلن يجد بعد ذلك أي قدرة للاستمرار على قيد الحياة".

كما أن عدم قدرة تومازينو على أن يحب إلسا مثلما تحبه، أو أن يحبها بالطريقة التي يريد، لا كما يريد أهلها وأهله؛ أو أن تكون لا تنتمي لنفس المكان كأن يتساءل: "كم يمكن لبلدة أن تُثقِل على المرء إلى هذا الحد؟" أو أن تجعله يتمنى لو أنه ألتقى إلسا في مكان آخر غير البلدة "لو كنتِ أنتِ فتاة من بلدة أخرى! لو كنت قد قابلتك في مونتريال، أو في أي مكان آخر، لو كنا قد تقابلنا وتزوجنا! كنا سنشعر بأننا حرَّان، خفيفان، بلا شك تلك البيوت، وتلك الهضاب، وتلك الجبال! كنت سأكون حرّاً كالطير!"

ومثلما بدأت الرواية بحديث الأم مع ابنتها وتذمرها من كل تفاصيل الحياة اليومية والثرثرة التي لا تنتهي على سكان البلدة، تختتم الكاتبة الرواية بتذمر الأم من التفاصيل التي لا توليها ابنتها أي أهمية، فما أن يعبّر الأب برغبته من الانتقال من البلدة إلى بلدة أخرى، حتى تبدأ الأم في شغل ذهنا بتفاصيل البيت الجديد "إذا كان المكان ضيقاً، فيمكن أن تنامي أنتِ مع الخالة "أوتافيا". لن تزعجكِ الخالة، يكفي أن تضعيها هناك مع كتاب، ولا يسمع عنها أحد. أما إلسا فلا نسمعها تقول شيئاً في الحوار الأخير.

(*) "أصوات المساء" للكاتبة الإيطالية نتاليا جينزبورج ( 1916 – 1991 ). الرواية صادرة عن دار الكرمة للتوزيع والنشر – القاهرة. ترجمة أماني فوزي حبشي  2016. 
  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها