الخميس 2016/11/10

آخر تحديث: 12:16 (بيروت)

ألبير قصيري.. الكسول المدهش

الخميس 2016/11/10
ألبير قصيري.. الكسول المدهش
اختار العيش في غرفة فندق لأنه كان يكره التملك
increase حجم الخط decrease
ظهرتْ -جلبابها بيتي لونه أحمر والإيشارب فوق رأسها تعتمره مثل ِعِمَّة- فصرخت فينا بغتة "ادوني جنيه"، ولما كنا نجلس على المقهى وأمامنا المشروبات، لم تترك لنا فرصة بين الإعلان عن طلبها ورفضه أو تلبيته، ورفعت زجاجة البيبسي "أكسر القزازة ديه يعني يا ناس... ادوني جنيه"، ثم ساقت علينا الجنون تُلوح بيديها وترطن كلامًا غير مفهوم. بحث رفيقي عن فكّة في جيوبه فلم يجد وسألني فلم أهتم. كان المقهى ممتلئًا بالناس، ووقتها قصير قبل أن يقبض عليها القهوجي، فقررت ألا تضيعه لتفارقنا، وقبل أن تنتقل إلى طاولة أخرى، وبينما يدا رفيقي مقيدتان في جيبه للبحث عن فكة، بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، أطلقت من فمها بصقة فأصابت وجهه في المنتصف، ثم مشت هادئة إلى الطاولة المقابلة لتطلب الجنيه.

كنت أود أن أبدأ هذا المقال عن ألبير قصيري (1913 - 2008)، الذي حلت ذكرى ميلاده قبل أيام، فأقول إن لديَّ أسباباً عديدة للإعجاب به، أهمها حبه للكسل وفشلي في إدراكه، لكن تلك الشحّاذة التي اخترقت المشهد في المقهى، استدعت -بالقوة ذاتها التي أطلقت بها البصقة- قصته المدهشة "خطر الفانتازيا"، تلك التي تتناول قضية الصراع بين التجديد والمحافظة، بين مثقف مُعدم وشيخ الشحاذين. إذ اقترح الأول على الثاني تطوير أسلوب التسوّل الذي يتبعه في مدرسته لتعليم المتسولين الصغار، بأن يترصد إثارة تعاطف الناس مع المتسوّل لا اشمئزازهم منه: "لا شيء يرضي الإنسان الشَبِع كالعرض الذي يثيره عاطفيًا بشكل لائق، من دون توسيخه أو إفزاعه"، وكانت تلك الفكرة التي رفضها الشيخ بمثابة لعنة لاحقته طوال القصة، لأنها تهدد فلسفته عن التسول إذ يعتقد "اعتقادًا راسخًا في فضيلة الإرهاب، المتسولون القذرون الذين يلقون الإرهاب في كل مكان، هذه الصورة التي تصنع القوة. إن قوة الفقر تكمن في أسمالهم وفي وجوهم المعذبة. لا يمكن انتزاع هذه القوة منهم؛ إنها تظل الملاذ الوحيد لمصيرهم المأساوي. فبها يدافعون ضد عالم الأقوياء الإجرامي وبها أيضًا يستطيعون التأثير في هذا العالم. ويؤذونه في أمنه ورفاهيته".

إن فلسفة تلك القصة ليست في انتصار أي من المذهبين على الآخر، وإنما تتجلى في أن بعض أزمات العالم لا يصلح معها التطوير؛ إما أن تظل كما هي أو تنتهي إلى الأبد، أو كما يقول في قصته على لساني الشخصيتين "لكن التقدم يتطلب تعديلات في كل المجالات، يا سيدي. فقط كنت أود محاولة التجريب/ - التسول لا يخضع لتعديلات. يجب أن يظل كما هو أو يختفي كلية من على وجه الأرض".

المدهش في قصة "خطر الفانتازيا"، ليس في قدرة الواقع على الانتصار لفلسفة شيخ الشحاذين، فنحن لم نكن بالطبع غير أداة استخدمتها الشحاذة لإرهاب الجالسين على المقهى، لكن لأن مجموعة "بشر نسيهم الله"، والتي تضم القصة وصدرت منذ 75 عامًا بالضبط (1941)، لم يتجاوزها الزمن، بأفكارها ولغتها والبنى السردية التي استخدمها ألبير قصير.

فـ"بشر نسيهم الله" أول أعمال قصيري السردية (أصدر مجموعة قصصية وسبع روايات)، نشرها قصصًا منفصلة في مجلات مصرية تصدر باللغة الفرنسية منذ العام 1931، ثم صدرت مجتمعة في كتاب العام 1941، أي قبل سفره إلى فرنسا واستقراره نهائيًا فيها بنحو أربع سنوات. وهو ما يجعل القارئ مندهشًا أمام اللغة الحسية المتجاوزة للمجتمع المصري المحافظ آنذاك، أو حتى اللغة السردية الشائعة في أعمال معاصريه من الكتّاب، بدءًا من اختياره لعنوان المجموعة نفسها "بشر نسيهم الله"، وهو عنوان صادم سواء بمقاييس عصره أو حتى عصرنا الحالي، مرورًا باللغة المكشوفة التي تستخدمها شخوصها في حواراتهم، وانتهاءً بوصفه المشاهد الجنسية بلا مواربة أو تورية.

وعلى عكس ما قد تحتمله الأعمال الأولى من قصور في الأسلوب الفني، تبدو تلك المجموعة القصصية -وهي النواة التي ارتكزت عليها أفكار أعماله الروائية اللاحقة- مكتملة ومؤسسة لمشروع كاتبها الذي تمثل السخرية أهم مقوماته، وتكشف عن حكّاء قدير، ابتداءً من قصتها الأولى "ساعي البريد ينتقم". فللقارئ أن يتدبر جمال تلك القطعة السردية من القصة الفائتة ليدرك كيف يملك قصيري أدواته بشكل محكم لصياغة حادثة تافهة في شكل مدهش: "لقد قاد تحقيق الشرطة إلى اكتشاف مثير. لم يكن اكتشاف القاتل، لأن ذلك التحقيق لم يستمر طويلًا في البحث، لكنه اكتشاف ذو فائدة أخرى، إنسانية على نحو عميق. لقد لفظ بائع الخضر أنفاسه الأخيرة –على ما يبدو- تحت الضغط الشديد جدًا للمبولة المصنوعة من الفخار التي كان قد ألقاها على رأسه، من نافذة كوخه، رضوان علي، الإنسان الأكثر بؤسًا في العالم. وهنا تكمن السمة الإنسانية: فالمبولة المصنوعة من الفخار، التي كان قد خُبط بها البائع، كانت قطعة الأثاث الوحيدة والفريدة التي ضحى بها ليحافظ على نعاس كل الشارع في الفترة الصباحية. وأمام هذا المعنى من التضحية، ظل رجال البوليس أنفسهم مرتبكين".

كذلك تكشف تلك المجموعة عن بناء سردي مبتكر في وقته، فهي أشبه بما اصطلح عليه حديثًا بـ"المتتالية القصصية"، فمسرح أحداث القصص كلها واحد، بل ويتطور زمنيًا من قصة لأخرى، لكنها لا يمكن أن تصير رواية كونها تفتقر إلى وحدة الموضوع أو تسلسله. ويمكننا أن نقول أن المجموعة، من بدايتها إلى نهايتها، ترصد فكرة الثورة منذ مخاضها إلى اندلاع شرارتها، لكن المسألة لا تجري بهذه السهولة. فالسمكري البسيط الذي يقرر أن الفقير قادر على صنع الكثير طالما استطاع قتل زوجته، وبالتالي فهو قادر على المطالبة بحقه في الحياة وعدم استكانته لبؤسه، يمر الزمن على غيره فيموت من يموت ويتغير شكل حارتهم، لكن لا ثورات توم، ثم يأتي آخر في نهاية الكتاب ليتخذ قرارًا مشابهًا بالثورة، غير أن الثورة أبدًا لا تقوم!

ومثل إبداعه، تبدو حياة ألبير قصيري مدهشة، إن لم تكن أكثر إدهاشاً. فقد كانت فلسفته في حياته هي فلسفة الكسل. لم يعمل طوال سنواته الـ95 التي عاشها إلا في ما ندر، وكان يعلل ذلك بقوله إنه لم ير أحدًا من أفراد عائلته يعمل: "حين نملك في الشرق ما يكفي لنعيش منه لا نعود نعمل، بخلاف أوروبا التي حين نملك ملايين نستمر في العمل لنكسب أكثر". فجدّه وأبوه وأخوته في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضي والأملاك، أما هو فقد عاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات. وفي حوار أجرته معه مجلة "لو ماغازين ليترير" الفرنسية، قال: "في فرنسا أحس أنني أكثر ثراء بكثير من الآخرين بما أنني احتفظت بهذا النمط الشرقي في تصور الوجود بلا عمل".

عاش قصيري منذ استقر في فرنسا في غرفة رقم 58 في فندق "لالويزيان" بشارع "السين" بحي "سان جيرمان دو بريه"، واختار العيش في غرفة فندق لأنه كان يكره التملك، إذ كان يقول إن "الملكية هي التي تجعل منك عبدًا". حتى إن زواجه من ممثلة مسرحية فرنسية  لم يدم طويلا، ليعيش المتبقي من حياته عازبًا، لأنه كان يرى أن السعادة هي "أن أكون بمفردي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها