الأربعاء 2016/10/19

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

"رجل الجيش السويسري".. صديق الجثة ومعلّمها

الأربعاء 2016/10/19
"رجل الجيش السويسري".. صديق الجثة ومعلّمها
نقاط قوة الفيلم تكمن في قوة الأداء التمثيلي لكل من دانيل رادكليف وبول دانو
increase حجم الخط decrease
ليست فكرة جديدة أن ترتبط الصحة النفسية بسعادة الإنسان وقبوله لنفسه كما هو. يمكننا بسهولة استرجاع ألبوم مارلو توماس السبعيني المعنون "فري تو بي يو أند مي"، الذي تحدّى الأعراف الجندرية وقدم احتفاء بالفرد: "تعال معي، خذ بيدي، وسنهرب/ إلى أرض يمشي فيها النهر حرا/ إلى أرض تعبر الريف الأخضر/ إلى أرض حيث الأطفال أحرار/ وأنت وأنا حرّين في ما نكونه".

هذه أغنية أطفال أميركية، تتوجه إليهم مشجعة بالقول أنه لا عيب في أن تكون شخصاً معيناً. فقط كُن نفسك، واستمتع بذلك. هذه الرسالة يمكن للمرء أن يجدها الآن في كل مكان. أفلام الأطفال، على وجه الخصوص، غالباً ما تحتوي نسخاً مختلفة من هذه الفكرة أو معتمدة عليها: إذا كنت تعاني فقدان الذاكرة على المدى القصير مثل "دوري" في "فايندينج دوري"، أو إذا كنت أرنباً مثل "جودي هوبس" في "زوتوبيا"؛ فإنك لا تقل أهمية أو قيمة عن أي شخص آخر في العالم.

في "رجل الجيش السويسري"(*)، باكورة أفلام المخرجَين الأميركيَين دان كوان ودانيل شنيرت، المعروفين بـ"الدانيلز" وقد نالا شهرتهما من العمل في مجال الفيديوهات الموسيقية، لدينا عودة إلى تلك الفكرة وثيماتها المترتبة عليها. الفيلم يدور حول شاب يدعى هانك (بول دانو) لا يستطيع التعايش مع نفسه أكثر من ذلك، وحيد حرفياً ومجازياً، يشعر بالسوء تجاه حياته وينعت نفسه بالانكسار والقذارة والوضاعة، يفتقر إلى شجاعة البحث عن تكوين علاقة مع المرأة التي يضمر لها إعجاباً يصل إلى حد الشغف. إنه يخجل من رغباته بقدر خجله من واقع وجوده وتعيّنه الجسدي، وهذه هي المشكلة الأساسية لبطلنا. إنه لا يستطيع تحمل عبء ذاته و"غرابتها". من هنا، يرتحل الفيلم لمتابعة الطريق التي يكافح فيها "هانكط، من أجل التصالح مع نفسه ومع كل الأشياء الصغيرة غير المقبولة اجتماعياً والموصومة بالفظاظة والغرابة المستنكرة.

منذ عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان "سندانس" السينمائي في يونيو/حزيران الماضي، حصل على اهتمام انصب بشكل أساسي على الطريقة التي يحكي بها قصته، وكان ثمة أزيز في الكتابات والمتابعات حينها حول "فيلم الجثة الضرّاطة" أو "الفيلم الذي يقوم فيه دانيل رادكليف بدور جثة ضراطة وتملك قوى خارقة". يظهر الممثل البريطاني الشاب في أغرب دور قدمه في السينما حتى الآن، حيث يؤدي شخصية رجل ميت طوال أحداث الفيلم. تعزل قصة الفيلم، "هانك"، على جزيرة صغيرة يستقر عليها بعد نجاته من الغرق وفشله في محاولة الانتحار، وتعطيه جثة طافية على الشاطيء لتكون رفيقة دانييل رادكليف، رفيق مستغرب ومنبوذ في البداية، وسرعان ما ستتكشف قدراته البدنية الهائلة وتأخذ صدارة الحكاية. ومن خلال تفاعله مع هذه الجثة المدهشة، والتعامل الحرفي للغاية مع الوظائف التي تمنحها؛ يجد "هانك" نفسه في مواجهة ذاته بشكل ما. في "ماني"، اسم صاحب الجثة، يرى وجوده المادي والمصير النهائي للبشرية، وفي نهاية المطاف عليه أن يقرر ما إذا كان سيقبلها أم يرفضها.

يطفو زوجان من الأسئلة الملحة على السطح أثناء مشاهدة الفيلم. ففي ضوء رسالته الأساسية، التي تبدو مألوفة، هل يمكن اعتبار أفكار الفيلم تقدماً من منظور جديد، أو طريقة جديدة للنظر إلى المشكلة الإنسانية المتمثلة في "كراهية الذات"؟ والسؤال الثاني، هل التخييل السينمائي المتشابك الذي يقدمه الفيلم، يقدم وسيلة لاستكشاف ثيماته وشخصياته بطريقة لا تجعل التشابك نفسه يطغى على الفيلم ويُميّع أفكاره؟ وبعبارة أخرى، حين يخرج المتفرج من صالة السينما، هل سيتحدث عن الفكرة الغريبة أم سيبقى معه شيء أعمق من الناحية الفكرية والعاطفية؟

وعلى الرغم من بروز رسائل الثقافة الشعبية الأميركية من نوعية "كُن نفسك، أحِبّ نفسك"، سيكون من الصعب القول بأن فيلماً يستكشف خجلنا من أجسادنا غير مرحب به. نحن نعيش في ثقافة يتم فيها تشجيعنا باستمرار على التدقيق في أجسادنا ومقارنتها بالنماذج المستحيلة التي تغمرنا بها الميديا، ويتم تشجعينا على تجاهل أجسادنا كذلك، بالتظاهر بعدم وجود تلك الأشياء التافهة الصغيرة التي تخبرنا بأننا لسنا مثاليين، والتظاهر أن خلايانا لا تتقادم وأنها لن تموت قريبا. الأجساد الميتة نفسها يتم اخفاؤها في أسرع وقت ممكن، ويجري العمل على تجهيزها في صورة تجعلها تبدو نابضة بالحياة قبل أن تذهب إلى مثواها الأخير، إما دفناً أو حرقاً. أو نحاول إخفاء أجسادنا وتغييرها عن طريق تغطيتها وتزيينها وتدريبها وتعويدها.

في "رجل الجيش السويسري" يصبح الجسد مركز الفيلم، يواجه المتفرجين بوظائفه التي غالباً ما يكون مصيرها الإخفاء والتجاهل، لتأتي هذه الوظائف مصوّرة على الشاشة طازجة وصادمة في آن واحد. ربما لا يمكننا استدعاء فيلم آخر جعل "الضراط" ثيمة مركزية في قصته من دون أن تكون معنيّة باستجلاب كوميديا رثّة أو نكات بذيئة، بل كتنقيب دؤوب عن أسباب ضحكنا على هذه الأشياء أو استشعارنا الحرج تجاهها.


نقاط قوة الفيلم تكمن في الأداء التمثيلي لكل من دانيل رادكليف وبول دانو، وفي الطريقة الاحتفالية التي يتعامل بها "الدانيلز" مع فن القَصّ السينمائي لصنع فيلم يبدو خفيفاً وسلساً، لكنه يخفي تحت حكايته طرُق تنتظر الاستكشاف. دانو، بمهارة ووضوح، يشدنا إلى شخصيته ومخاوفها وارتباكاتها ومسرّاتها. أما رادكليف، المناسب جداً لحمل ملامح جمود شخصيته وموتها الفيزيائي، يقدم لحظات مشرقة من الكوميديا والعاطفية الرثائية. وعلاوة على ذلك، فإنه، بالتركيز على قوة السرد القصصي، يسلط الفيلم الضوء على الطريقة التي يستخدم بها "هانك" القصص والحكايات لفهم حياته السابقة: في مسعاه لتعليم "ماني" (وبالاستطراد، نفسه أيضاً) أشياء عن العالم وعمّا يعنيه أن يكون إنساناً.، يخبر "هانك"، "ماني"، حكايات من ماضيه، وتحديداً، يعيد تمثيل هذه القصص ويقوم بإسناد دوره إلى "ماني". يبني "هانك" باصًا من عصي الغابة وقطع صغيرة استخلصها من النفايات والقمامة، ويحوِّل الغابة إلى ساحة تمثيل، وبصوته يصنع شريطاً صوتياً يصاحب المَشاهد. ومن خلال هذا القَصّ المسرحي السحري، يبدأ المتفرجون أنفسهم في الاعتقاد مع "هانك" بأنه وجد طريقاً لفهم شيء عن نفسه وعن رغباته وعن العالم.

حين تقسم عناصر السينما إلى أجزاء منفصلة، أزياء وحوار وكاستينغ وموسيقى وممثلين، لا تبدو مميزة على نحو خاص. لكن في تحية واضحة إلى السينما نفسها ومثيولوجياتها وقوتها العلاجية، إذا جاز التعبير، كما في "رجل الجيش السويسري"؛ يذكرنا "الدانيلز" بأسباب محبتنا للأفلام: السينما فضاء مفتوح على كل الاحتمالات، يمكنها أن تحكي أي قصة سخيفة وغريبة وتصبح حقيقية وأصيلة، حتى لو كانت حول صداقة بين رجل وجثة. وإذا كان الاستنتاج الذي يقود إليه الفيلم يبدو إشكالياً، أو أن لحظات تميزه تبدو متفرقة، أو أنه ينحو أحيانا إلى النصائح الفارغة من المعنى، فإنه من الصعب، في نهاية المطاف، القول أن وقتنا ضاع في مشاهدته، كون الفيلم مهموماً بالبحث عن العصاب الذي يحيط بالإنسان، ويملك الشجاعة لاختبار حدود ما يمكن للسينما أن تقوله من حكايات. لوا يمكننا سوى التطلع إلى الفيلم المقبل لدان كوان ودانيل شنيرت.

(*)"رجل الجيش السويسري" يعرض حالياً في سينما "متروبوليس أمبير صوفيل"-بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها