الأحد 2016/10/16

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

"صدمة" بوب ديلان

الأحد 2016/10/16
"صدمة" بوب ديلان
نوبل تأخرت في تكريم ديلان (غيتي)
increase حجم الخط decrease
معظم الكتابات الصحفية عن فوز الأميركي بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب، ركزت على أن لجنة الجائزة السويدية كسرت "التقليد الأدبي" من خلال تقديمها الجائزة الى مؤلف موسيقي وشاعر غنائي، بل ذهب بعضهم الى زيادة التأكيد على كسر القاعدة النوبلية المتبعة معتبراً أنها منحت في الموسم الماضي الى صحافية، وهي البلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، وهذا أشارة إلى أن ركائز نوبل بدأت تتبدل.

نوبل لديلان شكلت "صدمة" في "فيسبوك" ووسائل الميديا، وتراوحت التعليقات بين التأييد وفهم ما يجري في نوبل والأدب، والرفض انطلاقاً من تعليقات من بعض النقاد الغربيين باعتبار ان الجائزة تجاوزت اسماء أدبية اميركية كبيرة، وكرمت اسماً لامعاً يصنف موسيقياً وإن كان نصه يعبق بالأدب والمعاني. أما التعليقات العربية الأكثر دلالة فكانت استكمال الشعراء والكتاب العرب السخرية والتهكم من أدونيس باعتباره الاسم الحاضر دائماً في الرشيحات للجائزة وخسر نصه المنفوخ باللغة المبهمة أمام صاحب الكلمات الاحتجاجية، مع تذكيره بصوت المغني ابراهيم القاشوش الذي اقتلع شبيحة النظام حنجرته.

بالطبع هناك كم هائل من الملاحظات على نوبل للآداب، فهي مرت بـ"طلعات ونزلات" كما يقال، و"تعكس تقلبات الذوق المسيطر" بحسب بيار بورديو، وفي كل مرة تقدم لمبدع يجدون فيه علّة أو هفوة. وأن تعطى الجائزة لمؤلف موسيقي وشاعر اغنية "مضادة"، أمر إيجابي بامتياز، ونقلة نوعية، وليس هفوة، انه جزء من مسار الجائزة التي أحيانا تكون روتينية وفي أغلب المرات تكون مفاجئة، ألم تعطى الجائزة الى الزعيم السياسي ونستون تشرشل؟ بعضهم يقول انها تكرم المؤيدين لاسرائيل لكنهم لا ينتبهون الى أنها تكرم المؤيدين للقضية الفلسطينية أيضاً، وهي كرمت المنشقين عن الشيوعية في زمن الحرب الباردة (جوزيف برودسكي، ألكسندر سولجنيتسين) وكرمت الشيوعيين (ساراماغو، نيرودا)، اعطيت لكاتب حظيت كتبه بانتشار واسع (ماركيز) وربحها الكثير من النخبويين. من الصعب وضع الجائزة في قالب والحكم عليها من منظور المؤامرة والترهات.

لا أدرى لماذا لجأ بعض الرهط الفايسبوكي إلى السخرية من فوز ديلان، أليس هو ابن ثقافة رامبو ولوتريامون؟ وهل الشعر الغنائي خارج الأدب حتى يتم الاعتراض عليه (وان كان بعض شعراء الاغنية من التافهين، فهناك الكثير من كتاب الشعر الحديث من الركيكين ايضاً)، وحتى ان كان ديلان خارج الكتب التقليدية المرتبة على الرفوف، فكل أغنية يمكن أن تكون أهم من عشرات الكتب... ان يتم تكريم ديلان بجائزة نوبل لا يعني أنها تفضله على أسماء كبيرة(ريتسوس، بورخيس...) لم تكرمها نوبل.

ثمة الكثير من التعليقات الساذجة، أظهرت قلق بعض الكتاب من التحولات الثقافية، بل عدم اعترافهم بما آلت اليه الأمور، ولا زالوا يظنون أن الثقافة هي كتاب نقرأه ونضعه على الرف. وصحيح ان البلاروسية صحافية أكثر منها روائية لكنها تكتب بلغة أدبية أهم بكثير من عشرات الروائيين... أيضاً من قال أن البلاروسية لا تكتب رواية، ألم تخرج الرواية عن قواعدها التقليدية وباتت مفتوحة على مختلف الاجناس الأدبية والسياقات والتعابير؟

وبين سفيتلانا أليكسييفيتش وديلان فكرة جديرة بالانتباه، وهي ان الكتابة الإبداعية تخطت القوالب النمطية، وباتت النصوص والأجناس الأدبية مفتوحة على الكثير من الاحتمالات اللغوية والفكرية والأشكال الفنية، ولم يعد ممكنا البقاء في اطار التقاليد والكلاسيكيات. وهذا الأمر ليس بالجديد ولكنه يتبلور الآن بقوة، فكاتب مثل بورخيس معظم نصوصه تكسر القوالب.

حين نقول مؤلف أغاني في ديارنا (العربية) فهو حمال أوجه، أو هو أحيانا يكتب "اللاشعر" بالمعنى الثقافي الحداثوي، هناك الشعر المغنى الذي يختاره الفنان بدءا من قصائد أحمد شوقي والاخطل الصغير ونزار قباني ومحمود درويش والحلاج وحتى شعراء العامية ميشال طراد وطلال حيدر، وهناك "الشاعر الغنائي" ويتبادر الى اذهاننا شعراء الموجة الهابطة والصاعدة والسرمدية و"الآه والإيه" و"الهشك بشك" والفيديو كليب والدعارة المستترة. لا جمرك على تصنيف الشعراء، واللقب صار نكتة سمجة في جانب منه. باختصار هناك كلمات تكتب بلا سياق وتكون جزءا من صوت نسمعه ونستهلكه ونرميه أو نشتمه ونشعر بنشازه، وهناك كلمات لها وقعها الثقافي والاجتماعي والسياسي. لم يكن بوب ديلان مؤلف أغانٍ وموسيقى بالمعنى السلبي أو السائد، هو ظاهرة قبل كل شيء، يشكل جزءا من ثقافة مرحلة ضخمة في الخمسينات والستينات، تبدأ من بوكوفسكي ولا تنتهي مع "جيل الصرخة" (البيتنكس)، هؤلاء لا تقل أهميتهم عن الحركة السريالية والحركات الأدبية الكبرى. ديلان شاعر آت من الحياة، فهو ابن ثقافة تبدأ بشعراء اللعنة والتمرد والثورة، رامبو ولوتريامون وجاك كيرواك وآلن غينسبرغ مرورا ببريخت وشتاينبك، وهذه أسماء كلها أيقونات تمرد واحتجاج ويوتوبيا وأدب. كان ديلان موقفاً سياسيا وأدبيا ورأيا (وان كنا نختلف مع بعض توجهاته)، وليس مجرد صف كلمات وايقاع اعراس. كان ابن الواقع الاجتماعي وليس الهذر. وعندما نظّم مارتن لوثر كينغ المسيرة الشهيرة إلى واشنطن دفاعاً عن الحقوق المدنية للمواطنين السود كان ديلان في طليعة الداعمين لها. الأرجح ان نوبل تأخرت في تكريم بوب ديلان، وقبله غابت عن تكريم جيل البيتنكس، وان كنا نتمنى لها تكرم معظم الكبار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها