الخميس 2016/10/13

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

كلير دو كولومبل لـ"المدن": كتابتي اختباء خلف العُريّ

الخميس 2016/10/13
increase حجم الخط decrease
في العام 2013، وبقصد الإعتياش، شرعت الفنانة الفرنسية كلير دو كولومبل في مزاولة مهنة الموديل الحي، متنقلةً بين صفوف الرسم وورشاته في باريس. قبل أيام، أصدرت كتابها "العيون العارية" (عن دار Les impressions nouvelles)، وقد تناولت فيه، وبأسلوب رشيق، تجربتها المستمرة، التي تقتضي منها أن تتجمد عاريةً، ولساعات، أمام طلاب الرسم، كما تتطلب منها أن تحافظ على وضعياتها الجسدية أمامهم. عن مهنتها، جسدها، كتابتها، هنا، مقابلة لـ"المدن" مع دو كولومبل.

- بالتوازي مع كونك تعتاشين من مهنتك كموديل، أنت منخرطة في مجالات فنية متعددة، من الرقص إلى التصوير، وصولاً إلى الكتابة، كيف تفعلين ذلك؟

ممارستي الفنية تستند إلى أشكال عديدة، لكنها ترتكز على مجالين أساسيين: الكتابة والجسد. في الماضي، مارست الرقص، ثم جذبتني الكتابة، وقبلها، صوّرت، واهتممت بالصوت. غالباً ما أشكك في ما أعمد القيام به، هذا الأمر مؤلم للغاية، ومتعب للغاية، وأحياناً، أسأل نفسي عن جدوى كل هذا الجهد الذي أبذله. لا أبدأ عملاً إلا عندما أستطيع قول شيئاً ما فيه. أرى أنه من الصعب جداً أن يبقى المرء أصيلاً في انخراطه الفني، لا سيما في عالم يسير وفق تقديس الإنتاج، وتقديس الإعتراف المباشر بصاحبه. على العكس من ذلك، الفن لا يسير وفق العرض والطلب الخطابيين، فربما الفنان يحتاج إلى الإعتراف به، لكنه من المؤكد أنه يحتاج إلى الوقت، إلى الكثير من الوقت، لكي ينجز عملاً، ولكي لا ينجز عملاً، لكي يتحرك، ولكي يبقى في محله.

- كيف قررت الكتابة عن مزاولتك لمهنة الموديل؟

عندما قررت أن أكتب عن تجربتي كموديل، كنت مأخوذة برغبة بعينها، وهي مشاركة التوتر، الذي يعتريني خلال تأديتي لوضعيات جسدية محددة. ولا أخفي أنني، وفي أثناء ذلك، كنت على صلة بهؤلاء الذين يرسمونني، وأتعامل معهم من باب التبادل، أو "التواصل الصامت"، الذي لا يحصل سوى خلال وقت جلوسي أو وقوفي بجسمي أمامهم. ثمة شيء بسيط وحقيقي في لقاء الأجساد، أي جسد الموديل العاري، الذي يثير طرحاً، تحاول أجساد الرسامين التقاطه. وكل ذلك، لا يلغي أن هناك غرابة في موقفي حيالهم، في طريقة لقائي بهم، بحيث، وعلى الرغم من رسمهم لجسدي العاري، يبقون غرباء عني، وأبقى غريبة عنهم. وهذه المفارقة تبدو، على الأغلب، لصالحي، إذ إنها تحمي جسدي من مرور الوقت الطويل عليه، وتجعلني على إتصال بأحاسيسي وأفكاري، التي تتكاثر عندها، وذلك، في وقت أن الرسامين يظهرون كأنهم مأخوذون بضرورة إلتقاط وضعيتي، ولديهم خوف من تغييري لها. فحين آخذ وضعية أمامهم، أكون على صلة مباشرة بهم، وبالفعل نفسه، على إنفراد. وبانتقالي إلى الكتابة، أردت أن أتحدث عن تلك المفارقة الواقعة بيني وبينهم، وعما أخفيه وراء العريّ، والتجمد، والصمت، وعلى سبيل لاواع،ٍ كنت أريد إيجاد شيء ما يجمعني بهم غير عيونهم، ووضعياتي تحتها.

- ثمة ألمٌ في كتابك، ألَمُ أن تكوني موديلاً، وألَمُ أن تتجمدي تحت أنظار الآخرين، فهل هو ملازم لك؟

ليس بشكل دائم، لكن هذا لا يلغي أنه يعتريني في الكثير من المواقف القاسية. فمرةً، أخذت وضعياتي في إحدى الورش المنظمة للتدريب على رسم البورتريه. كان عليَّ أن آخذ الوضعية نفسها طوال اليوم لكي يتمكن المشاركون من رسمي. أتى البروفيسور المسؤول عن الورشة، وتوجه إلى الطلاب قائلاً: "إذا لم تتمكنوا اليوم من إنهاء عملكم، أي رسم الموديل الموجودة أمامكم، فمن المتاح لكم أن تلتقطوا لها صوراً فوتوغرافياً، ومن خلالها، تستكملون رسمكم لها". كنت أستمع إليه، وكنت منزعجة من هذا القرار، الذي أخذه، ولم يعلمني به على الإطلاق. ذلك، أن من مبادئ العمل كموديل، أن أرفض إلتقاط أي صورة لي، ورسمي على أساسها، خصوصاً من دون إستئذاني. لكن، في هذا النهار، كتمت اعتراضي، فرأيت كاميرات الطلاب تلتقطني، إلا أنني، وبعد قليل من الوقت، رفضت فعلهم هذا. في تلك اللحظة، شعرت فعلياً أنني موضوع حيازة وتملّك، وشعرت أنني "طبيعة ميتة" أكثر من كوني موديلا حياً.

- على طول قراءة كتابك، تحيل مقاطعه إلى تمييز برغسون بين النبتة والحيوان، بحيث أن الأولى تضحّي بحركتها لكي تحتفظ بطاقتها، أما الثاني، فيضحّي بطاقته لكي يصنع حركته. كموديل، هل تتحولين إلى نبتة؟ وككاتبة، هل تتحولين إلى حيوان؟

صورة النبتة، التي تبدو ظاهرياً ثابتة، لكنها، حية ومتحركة جوانياً، تحفزني كثيراً. إنها الصورة التي تخطر في بالي عندما اتخذ وضعية محددة، وأحاول التركيز على إدراكاتي الداخلية والحسية من أجل ألا يقع جسدي في انكساره. فعلياً، أرى الأشياء من ناحية حركتها أكثر مما أراها من جهة جمودها. الطاقة هي بمثابة حركة، بمثابة أول الحركة. كما في النبتة، كذلك في جسدي، الطاقة تدور داخله من دون أن أقدر على تلقفها. وفي كل الأحوال، التوترات المختلفة، التي نعيش تحت وطأتها، أكانت جسمانية أو نفسية، برانية أو جوانية، تغير دوران هذه الطاقة، فنقدم على إيقافها أو على تبديدها. وعلى نحو حيواني، أي على نحونا جميعاً، نستطيع أن نؤدي عملاً، أن نترك أثراً، أن نكتسب إحساساً ما بهذه الطاقة، وهذا الإحساس يودي بنا إلى صناعة وعينا الفيزيقي، الذي نعمد إلى إستعماله بفطنة. عندما آخذ وضعية جسدية ما، أركز على طاقتي، أنقل انتباهي إلى موطني الفيزيقي، أسعى إلى أن أكون في إحساسي الخالص، في حيويتي، في شكل من أشكال التبادل المباشر مع الفضاء والناس المحيطين بي. في الصميم، سلوكي هنا هو سلوك حيواني. وفي المقلب نفسه، أجد أن علاقتي بالكتابة هي علاقة ترجمة، أو لنقل أنها تمرين على الترجمة، وموضوعها هو تجربتي، التي أعيشيها بحيوية نباتية أو حيوانية، وأجهد في مشاركتها مع الآخرين.

- تتعاملين مع نصّك كأنه جسدك، كيف تتنقلين بينهما؟

لا شك أنني أتعامل مع نصي بالطريقة ذاتها التي أتعامل بها مع جسدي حين أعطيه وضعيةً، تجعله حياً، ومفتوحاً، حتى يستحيل فضاء لمعاينة الرسام، أو لتحديق  القارئ. ينوجد الجسد حين أصعد على سلّم عرضه أمام العيون، لكنني، عندها، لا أكون مؤلفته، بل أسكنه، أكتشفه، وأميط اللثام عن إمكاناته، ذاهبةً إلى الإلتقاء بحدوده المتحركة. جسدي موطن موجود قبلي، أما حين أكتب، فلا وجود سوى لفكرة، لرغبة، وشيئاً فشيئاً، تأخذ كتابتي شكلاً أو جسداً، ننحته، ونقيسه، ونقلبه، وذلك ليس عبر إضافة أشياء عليه، بل من خلال إزالة أشياء منه. لما بدأت بالكتابة، تركت لنفسي حرية تسجيل أي شيء يخطر في بالي، ثم شرعت في الإختزال منه، كي أجعل نصّي أكثر متانة، وأكثر دقة في جُمله وعباراته.

- تكتبين أنك لطالما كنت، خلال تعرّيكِ، "في الإحساس، ولكن، ليس في الصراع". لو أنك كنت في الصراع، على ماذا كنت ستُقدمين؟

ليس الجسد مصنوعاً لكي يبقى جامداً لمدة طويلة. عندما نتوقف عن الحركة، تظهرت توتراتنا سريعاً. بالتالي، علينا أن نخلص أجسادنا من الجمود، لا أن نقتلعها منه، بل أن نوفر لها طرقاً للإنصراف الهادئ منه. أن تكون في الصراع يعني أن تكون في اضطرابك (الفيزيقي أو الذهني)، ولا يمكننا أن نهجر الإضطراب باضطراب، بل عبر الإستماع إليه، بقبوله، ثم، بتركه. هذا ما أفعله، ما أجربه دائماً لكي أتحمل البقاء في وضعياتي أمام العيون، التي في حال لم أكن مرتاحة مقابلها، فلن يتمكن الرسامون من التقاطها أو نقلها إلى أوراقهم. فعلى الموديل أن توهمهم بأن أخذ وضعية جسدية ما هو فعل سهل، وسهل جداً.

- "أتعرى في أثناء كتابتي"، تقولين هذا. كيف يمكنك ألا تكوني عارية في أثناء عريك أمام الرسامين؟

عندما آخذ وضعية، وأتوقف عن الحركة، أكان ذلك لخمس دقائق أو لساعة، أدخل في جمودي، الذي يرتديني. طبعاً، الجمود هو جسدي، وعريّي لكنه، وفي الوقت نفسه، جسد آخر، لا ينوجد إلا في تلك اللحظة، في تلك الجلسة، ومن أجل مجموعة من الأشخاص. وهؤلاء، وعبر رسمهم، يحولون نظراتهم عني، ويوقفون تلصصهم عليّ. على أنني لا أنفي هنا أن الإنتقال من جسدي إلى ذلك الجسد الآخر هو انتقال هش للغاية، فعندما يفتح أحدهم باب الورشة، ويجدني أمامه، أشعر، ومن تلقائي، أنني فعلياً عارية. فنحن نشعر أننا عراة عندما نُباغَت بحضورٍ ما في وقت نعتقد أننا على إنفراد، أو لما نكون فاقدين لتوازننا، ولا يمكننا أن نخفي حالنا هذه. أما حين يغيب ذلك الحضور، ونحافظ على توازننا، فنشعر أننا غير عراة، أو بالأحرى نشعر أن عريّنا في المكان الملائم له.

- تشددين على أنك لا تريدين حصر نصك في التمثّل، فبماذا تستبدلينه؟ بالدقة مثلاً؟

حين أعطف كتابتي على وضعياتي الجسدية، لا أبغي عندها أن أكون في التمثّل، بل في اللعب والمحاكاة. تطرح الموديل هيئات ومظاهر، وهي حرة في ممارستها، وفي تحديد أوقاتها. بمقدورها أن تجد وضعية مريحة، وتتوقف عن الحركة، وبمقدورها أن تقرن بين وضعيات عديدة، وأن تسكنها بشدة معينة. مزاولتي للوضعيات تذهب نحو ابتعادي عن إنتاج موقف أو إحساس عبرها، بحيث أحاول ألا أفكر خلالها، أحاول أن أستمع إلى جسدي، إلى دعواته لي بأن أرخيه، أو أشده، أو أرفع يدي نحو السماء، أو أن أضع رأسي بين كفي. المهم في ذلك كله أن أكون في حالة من الإنفتاح على جسدي، وعلى الرسامين، الذين يعمد كل منهم إلى مشاهدته بطريقته. أعتقد أنني، وبعملي كموديل، استطعت أن أصير مسقط عيون، وفي الوقت إياه، أختفي وراء جسدي الحاضر، وربما هكذا تبدأ الكتابة، أي بالإختباء خلف العريّ، وليس بالإنكشاف عبره.

- عند تسييس وضعك كموديل، سرعان ما يظهر استفهام، مفاده أن هناك سلطة تعايننا، وتحدق فينا، ونحن عراة تحتها، كيف نواجهها؟ ما هي استراتجيتك؟

أعتقد أن هناك "شيئاً" ما فينا، لا يمكن لأي نظرات برانية، ومهما كانت كثيرة أو قوية، النفاذ إليه. وهذا "الشيء"، الذي لا سيادة لغيرنا عليه، يمكننا الإستناد إليه لكي نتحرك في جمودنا. ولأنني لا أعيش في المكان الأكثر خطراً في العالم، لا أجد مناصاً من التعبير عن أفكاري، وحتى هذه السلطة، التي تعايننا وتراقبنا طوال الوقت، لا أستصعب التصدي لها. فاستراتيجيتي تقوم بالسعي إلى الحفاظ على وعيي وعدم تشويهه، إلى رؤية كل شيء حولي، إلى البكاء والضحك بكل جدية، وإلى ترتيب فضائي الجواني لكي لا أحس بأنني عاريةً داخل العالم، أو في مهب رياحه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها