السبت 2016/01/30

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

خريطة الأجساد في بيروت.. توطئة سلسلة

السبت 2016/01/30
خريطة الأجساد في بيروت.. توطئة سلسلة
الجسد والخراب في بيروت (عن الانترنت)
increase حجم الخط decrease
لا تقوم بيروت، وكأي مدينة أخرى، بدون أجسادها التي تبدأ علاقتها بها، بوصفها مُعاشاً واجتماعاً، من خلال الوجوه والأيدي. الوجه هو سبيل صاحبه لكي يتألف كشخص بذاته ولكي يتآلف مع غيره بالتعارف، واليد سبيل الإتصال بنظام التبادل، بالإعطاء والأخذ، بالتسليم والحصول. فالجسد المديني الأساس يتشكل من هاتين القطعتين، وانطلاقاً منهما يجري تركيب القطعات الأخرى، لا سيما الأقدام التي إما عليها أن تحث الخطى لكي تمتن الوجه وترفعه الى درجة أعلى من التماسك والإنغلاق، أو لكي تقوي اليد وتجعلها حائزة أكثر ومناولةً أقل. هذا وتظل بعض قطعات الجسد، الذي تكونه المدينة وتطغى عليه، معطلة أو غير مشغلة، ذلك، حتى تجد صلتها بقطعتي الوجه واليد، فتعمل حولهما. بالتالي، يبدو الجسد كأنه يدور ثنائياً، عبر وجهه، وعبر يده، عبر نظامي التعارف والتبادل، الذين كلما أمعن بهما يدخل بيروت أكثر ويجثم فيها، ولا يعود ماكثاً في العبور إليها ومنها.

ومع دخول الجسد الى بيروت، يبدأ بالوقوع داخلها، ويتحرك في فضائها الموجود قبل بلوغه إياها، فيتنقل من مقصد الى آخر، من العمل الى المنزل، وبينهما يتوجه الى السوبرماركت أو الى المقهى، ومن مكان الى آخر، يُستعمل لإنتاج ذلك الفضاء الذي يستخدمه. طبعاً، يُلحق بنظامي التعارف والتبادل، نظام آخر، وهو التداول، وموضوعه التصورات والخطابات والأخبار وغيرها، والذي يحمل المرتبط به، انطلاقاً من وجهه ويده، الى التكلم والإنباء والمزاحمة، والى زيادة جسم على جسده، أكان لغةً أو ثياباً أو سيارةً أو هاتفاً أو أي مركبة أو جهاز، فضلاً عن الحيوان المستدخل بقسوة الى نُظم الترويض والشخصنة والتهيئة. وعليه، يظل الجسد محكوماً بالإمتداد الى خارجٍ منه والإنكفاء الى داخله، ومعهما، الإنجلاء بحثاً عن موضع في المشهد المديني.

ولكن، وفي أوقات بيروتية كثيرة، هذا الجسد، ولو كان يعمل بإحكام، أو، ولأنه يعمل بإحكام، يودي بصاحبه، أي حامله وحمولته، إلى نقيضه، فيذهب بوجهه من التماسك الى التراخي، وبيده من الحيازة الى المناولة، فيضطرب ويلجأ الى نظام رابع، هو نظام الإقتراض. على هذا النحو، يضحى الجسد القاعدي في بيروت جسداً مستديناً، يقترض كي يواصل عيشه أو لتدويم موقعه وإعلائه. هذا الجسد ليس منفصلاً عن الجسد السابق على القطون في المدينة، والذي جاء اليها من غيرها، بل أنه يتصل به، يكشفه، وقد يعيد إنتاجه بشكل آخر، لا سيما عند دخوله في نظم الإدانة والاستدانة والإذناب والإستذناب.

غير أن ذلك الجسد ليس الوحيد في بيروت، فهو بالطبع رائج، ويكاد يكون نموذجاً، لكن، ذلك، لا يعني أن الأجساد الأخرى تتحرك وفق نُظمه وصلاته بها. لا، هذا الجسد الذي يحضر في داخل المدينة لا يحتكر الأمكنة، حتى لو كانت سلطاته تتحكم به. ثمة أجساد أخرى، تقع أمام بيروت، وليس في داخلها، وتتعامل معها كأنها تصور مشهدها، وثمة أجساد تقع فيها وخارجها على حد سواء. لقد قال جان لوك نانسي مرةً أن العشاق في المدن ليسوا بموجودين داخلها بل في فضائها وخارجه على حد سواء. لماذا؟ لأنهم يستبدلون، اذا صح التعبير، يستبدلون الحركة لبلوغ مقصد بالحركة لإحداث معنى، والتعارف بالالتقاء، وقبل ذلك، يحضرون بأجسادهم في مقابل بعضهم البعض، وهذا ما يشكل الجسد بعيداً من ضبطه عبر الوجه واليد. العشق يشكل الجسد بقطعات غير تبادلية وغير تعارفية، غير تداولية وغير استذنابية.

وثمة أجساد لا تشبه أجساد العشاق، لأنها تقع في خارج المدينة، وعندما تجيء إليها، تظهر فيها كأنها لم تأتِ من مكان. هذه الأجساد هي عدوة الجسد المديني القاعدي، وأصحابها هم الشحاذون، الجالسون في غير مواضعهم، الواقفون لوقت طويل في المكان نفسه، شغيلة الجنس، مفترشوا الأرصفة، مزاولوا الإغراء، صناع الايروتيكيا اللامرئية، العمال المتجمعون على مفترقات الطرق، وأحياناً الموتى. هؤلاء جميعهم وغيرهم تقصيهم المدينة، تُبعدهم عنها، لأنهم ببساطة يشيرون الى أعطاب الجسد الذي يكونها وتكونه، أي أنهم، بحسبها، يخربون انتظام فضائها وتوزيع الحركة فيه.

هناك صراع متواصل بين تلك الأجساد غير القاعدية والفضاء المديني، صراع على التنقل والبطء والسرعة، صراع مع التصاميم العمرانية  والسيارات وشرطة المرور ومع المأهولين بأي سلطة في حيّ أو في شارع. كما أنه صراع بين المدينة بما هي عليه قبل حضور الجسد فيها والمدينة بما هي فن هذا الجسد وحركته، صراع بين مدينة بلا جسد ومدينة الجسد، بين الجسد في إعلانات البنوك، كموظف يؤدي صورة عنه، والجسد في لوحات الرحالة الذين زاروا بيروت في نهاية القرن التاسع عشر، بحيث أنه بدا فيها مرسوما كخط من خطوط المدينة، ومتمتع بسعتها، كما لو أنه في نزهة متواصلة، حتى لو كان يكد أو يتألم.

لا شك أن الجسد القاعدي، المؤلف بالخطابات والتصورات والمقاصد، وعلى أساس نُظمه الأربعة، أي التعارف والتبادل والتداول والاستدانة، هو جسم ضاغط، يحاول الإحاطة بكل الأجساد الأخرى وجعلها على مثاله. فإذا فلتت من نظام من نظمه، يتربص لها في آخر، وإذا تخلصت من الأخير، يترقبها في ثالث وهكذا الى أن ينجح في الإيقاع بها، وإطاحتها. وكل هذه الخطورة لا تلغي أن تلك الأجساد تقاوم وترسم الخريطة الخاصة بحركتها، وتحاول التفاعل مع بيروت كأنها تكتبها أو تقرأها، وتجد فيها ما تراه موائماً لها، لا بوصفها وجه ويد، أو "ماكينة تبدل" على قول جان كلود بون، بل باعتبارها أثر لرجاء الحياة ومدينتها الممكنة. للأجساد مدينة مقبلة، مفترضة، تُمارسها في قلب المدينة القائمة، فتبسط زمنها، وتتركه يخرج من حاضره المغلق، ليتفشى، فينم عن جغرافيتها ويصير لطخة حضورها.

سلسلة "خريطة الأجساد في بيروت"، وعلى طول مقالاتها الآتية تستند الى اشكالية وعبارة. الأولى، سؤالها هو "هل تحظى الأجساد بأمكنتها في بيروت؟"، والثانية هي أن كل جسد يخطر على بيروت وفيها إنما يصنع بيروت أخرى عبرها وعلى جوانبها. كيف يحدث ذلك؟ ماذا يحصل في لحظات تخلص الجسد من وجهه ويده، في لحظات كفه عن الدوران وممارسته الحركة على منوال آخر؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها