لم يستوعب الروائي في داخلي اختفاء المدينة، ولوهلة حسبها قلة الرغبة في الكتابة او عدم القدرة على التركيز او ربما في اسوأ الحالات تكون "رايترز بلوك"، لكني حين عدت في تلك الايام لقراءة ومشاهدة اخبار المدينة بعد زمن مر على انقطاعي عنها، حين بت ارى صور وفيديوهات المدينة في نشرات الاخبار وواجهات المواقع الالكترونية، لم احس بذاك الولع والقلق اللذين رافقا ذاكرتي معها دوما، او لأكن اكثر صدقا وأقول بأنني لم احس بشيء ابدا. قد تكون المدينة بمفهومها، منحصرة في الاماكن العامة والازقة المتراصفة والساحات الحديثة والاقبية العتيقة والمشاة بملابسهم التقليدية والبنية التحتية واسطورة وزارتي الكهرباء والسياحة، بينما ان حضرت في ذهن الروائي، فهي المخيلة.
ولسنوات طويلة حافظت على المخيلة، وغذيتها بالذاكرة والموسيقى الشعبية. شغفي بها وانا خارجها صار يفوق شغفي بها عندما عشت فيها. عشت فيها خمسة عشر عاماً، وقضيت السنوات الست او السبع، بعد خروجي منها، في البحث عنها في الكتب والمخطوطات والمتاحف والمواقع القديمة في صفحات الانترنت. جمعت العديد من الصور وخزنتها في ملفات متفرقة على هارد درايف بحجم سطاش گيگا.. طرقت بيوت اناس عاشوا هناك في زمن ما لأسمع حكاياتهم واسجلها صوتا وكتابة. كنت مشبعا بالمدينة، وكانت ذاكرة حياتي فيها واضحة اكثر حتى صار في امكاني استدعاء تفاصيل يوم بعد آخر منها، وأن تراودني في الليل منامات مدغدشة: طرق تمتد وتراب واعمدة عمارات وروائح، حتى بانت لي خيوط رواية، وشخصيات وحوارات من ليالي الخميس الطويلة، وكنت ممتلئاً بالمدينة، واغاني المدينة، حنين الى زمن عشته واخر لم اعشه فيها.
كانت في رأسي حكايتان تدوران في ذات المكان ولكن في زمانين مختلفين: الأول ديستوبيا للزمن الذي عشته فيها، والآخر يوتوبي لزمن قديم تخيلته. ولأنني في بيئة من الناس عصير يومهم كأس من الزمن الجميل، كان من الطبيعي ان اغرق في نوستالجيا الحنين الى الزمن الجميل. فالنوستالجيا امر مهم للروائي، وبالاخص ان كان يكتب باللغة العربية، وحتى ان كان يكتب نصا عن الغربة في مقهى في ايدجوير رود(**).
صورة المدينة العتيقة في الرواية الحديثة امر أورجازمي بحق، والكتابة عنها لذيذ كالاستمناء. اتذكر أني قضيت تلك الايام الاولى في الكتابة من دون القدرة على التوقف. في الواقع، كنت كلما اردت التوقف وجدت نفسي مسحوباً بحكاية اخرى. لم تكن المدينة في يوم من الايام حاضرة في مخيلتي بهذا الشكل الذي عشته اثناء الكتابة عنها. انها الرحلة ذاتها التي ربما انتجت العديد من الروايات المهووسة في كل سطورها بالتنقيب والبحث في أسرار المدن. انها الطاقة نفسها المحشوة بالخوف والحنين والاضطراب، ادوات الروائي الناجح.
لكن الامور تبدلت بعد حين، ولم تعد الرواية وحكاياتها مسلية. نشرات الاخبار ايضا لم تعد مسلية.. و"عندما استيقظت المدينة ذات صباح، بعد ليلة مضطربة، وجدت نفسها وقد تحوّلت إلى بالوعة"(***)..
اختفت المدينة اذا، ولا ادري متى حدث ذلك بالضبط. ربما كنت اغسل الصحون يومها، او ربما حدث ذلك ذات صباح تحت الدوش البارد، او علها اختفت في احدى رحلات الاسيد في الصيف الماضي. لا ادري. ومن ثم ايقنت بأنها اختفت، ولم يعد في مقدوري القيام بأي شي.
حين عثرت في الاسابيع الماضية على مخطوط الرواية في الهارد درايف السطاش گيگا، رفقة ألبوم الصور، قرأته، واستمتعت ببعض فصوله بينما لم تسترعِ انتباهي الحكاية أبداً.
لكن أمراً غريباً حدث يومها، وهو في الواقع ما دفعني للبدء في كتابة هذا النص. اذ انني حين كنت اقرأ على مهل فصلاً طويلاً في وصف المدينة، بان لي كل شيء واضحاً تماماً كما كان من قبل.. فجأة هكذا عادت لي الذاكرة، ملونة، لكنها هذه المرة كانت مختلفة تماما. كنت أرى الشوارع، كل منها يطفو على حدة. الساحة التي تجمع بينها كانت تطفو بعيداً على حالها. اعمدة العمارات ايضا تطفو، اشجار النخيل وتمثال الغزالة وقوس ماركوس كلها تطفو. السراي وسينما الخيام واشياء اخرى كثيرة - نسيت اسمها - كانت كلها تطفو.
- ألقيت هذه الورقة بنسختها الانكليزية في ندوة "المدن المختفية في العالم العربي"، ضمن فعاليات مهرجان شباك للثقافة العربية المعاصرة - لندن 2015
---
(*) أسيد: LSD
(**) ايدجوير رود: شارع العرب في لندن
(***) عن كافكا – بتصرف.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها